المثني ابراهيم بحر
في جامعة الخرطوم منتصف سبعينات القرن الماضي برز نجم المرحوم الاستاذ الصحفي (محمد طه محمد احمد) كواحد من أبرز كوادر الاتجاه الإسلامي الخطابية والكتابية، احد ضحايا مشروع الجبهة الأسلامية المتمثلة في فشل منهاجهم التربوي, جعلته يدفع حياته ثمنا للتهور الذي تربي عليه في مدرسة الأسلام السياسي,اذ تربي في مدرسة لا تعترف بالأخرين ولا تؤمن بأحترام أختلاف وجهات النظر , للدرجة التي جعلته يؤسس صحيفة ترتكز علي شخصه...! وفي يقيني لو انه تربي في اتون اي مدرسة أخري بخلاف مدرسة الاسلام السياسي لشهدنا فيه شخصا بمواصفات مختلفة خلافا لما كان عليه,اذ جلب لنفسه الكثير من العداوات النابعة من أختلافه الفكري مع الأخرين, وكان من الشامتين في موت( الاستاذ محمود محمد طه), اذ الجمهوريين يمثلون عقبة للاسلاميين في اركان النقاش في تلك الحقبة التي كان احد نجومها د القراي, واحمد المصطفي دالي , من حيث المقارعة بالحوار والنقاش وفقا لمنهاج تربيتهم الذي يقضي بأحترام اختلاف وجهات النظر , ولم يستطيع الاسلاميين مجاراتهم في هذا الجانب وفقا لمنطق اختلاف وجهات النظر التي تحيل جدلية اختلاف الرأي بين المتجادلين الي خصوم وليسوا متحاورين....! وهم الذين اتخذوا من الوسائل اللاأخلاقية مكانيزمات ( لتعنيف) من يختلفون معهم في الرأي....!وقد أشتهروا بحمل السيخ والعصي لضرب خصومهم منهم( الطيب ابراهيم محمد خير) الذي اشتهر بالطيب( سيخة) وهو ايضا احد النماذج المتمثلة في فشل مشروع الجبهة الاسلامية التربوي.
, يحكي د( محمد جلال هاشم) احد نجوم تلك الحقبة في العدد193 اجراس الحرية 6سبتمبر2008 بأعتباره حاضرا لكل تلك الحقبة بكل تفاصيلها ,"جاء( محمد طه محمد احمد) الي احد أركان نقاش الجمهوريين, عقب صدور اعدام الاستاذ(محمودمحمدطه) ليصفي حساباته مع( أحمد المصطفي دالي) التي كان يتمخض فيها التاريخ وايامه الحبلي, تلك كانت من اللحظات العديدة التي هزم فيها الاستاذ محمود وتلامذته الموت, فقد اعطي( احمد المصطفي دالي) فرصة (لمحمد طه محمد احمد)كيما يشارك النقاش, ولكن كانت كل مداخلة (محمد طه محمد احمد )تتمثل في سؤال واحد...؟ يا (دالي) "انت قبل كده قلته لو الاستاذ مات حترجع تبيع شاي في حلتكم....! اها بكرة حتعمل كدا ولا لا....؟ " وبكل القوة الايمانية التي تشربها (احمد المصطفي دالي) من استاذه ردا في غاية المعرفة الايمانية...! لن يحدث الا ما امر الله" فقد كان (محمد طه) شامتا في ذاك اليوم الذي حضره الكثيرون , وذلك يعكس جانبا هاما من شخصيته.فقد (ماحك) في محاصرته (لاحمد المصطفي دالي )مطالبا بجواب ما كان في مقدور اي واحد من خلق الله ان يجيب عليه! وهو هل سيموت الاستاذ غدا اذا تم تنفيذ حكم الاعدام....؟
كان شامتا حد الشماتة...! لكن هذا لا يعني انتفاء العامل الاخر , والذي اري انه كان المحرك الاساسي له, اذ لم يستطيع ان يمسك نفسه ليري بعد ساعات بأم عينيه اذا ما كان الأستاذ(محمود محمد طه) سيموت ام لا...! وقد يري الكثيرون بأن الطريقة التي قتل بها جاءت علي بشاعتها انتقاما ربانيا لما اقترفت يداه تحريضا وشماتة في مقتل الاستاذ( محمود محمد طه)....! ولكن بالرغم من كل ذلك, هل دعا احد من الجمهوريون علي جماعة الاخوان ردا علي شماتتهم في موت الأستاذ (محمود محمد طه)...؟هل رأينا في يوم ما ان احد الجمهوريين قد شمت في موت (محمدطه محمدأحمد) ....!لا اعتقد ذلك , وكما اشار د (محمد جلال هاشم )فقد حزن الجمهوريين علي( محمد طه محمد احمد) ومنهم كثيرون بكوه بدمع سخين داعين له بالرحمة والمغفرة, وان يسكنه المولي عز وجل منزل صدق مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا, وتلك كانت احدي المناهج التربوية في الحزب الجمهوري القائمة علي الحب.
يتصف الجمهوريون بأخلاق عالية وقدرة متقنة علي المجادلة والنقاش بتروي وأحترام الأخرين, مهما بلغت درجة النقاش والحوار والخلافات مع مجادليهم , بحسب ملاحظاتي, وخصوصا ملاحظات الكثيرين الذين زاملوهم عهدهم الزاهر علي ايام كانت اركان النقاش في الجامعات في اعلي معدلاتها, في حقبتي الستينات والسبعينات الثمانينات من القرن الماضي , وذلك يرجع لمنهاجهم الذي تربوا عليه كما أسلفنا , فقد كانت من الشروط المهمة في الانضمام للحزب الجمهوري الالتزام بتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن, و ثم الدعوة لها بالتى هى أحسن, وقد رسب كثيرون فى الالتزام بهذه الشروط التي تتعارض مع مبادئهم الاساسية, حيث كان الفشل في التجارب العملية, في محيط التعامل مع الاخرين في الحياة العامة,و الحوار مع المتجادلين و مقارعتهم بسلاح الحوار البناء , وليس العنف بشقيه المعنوي والمادي , وعلي سبيل المثال عند وفاة الشيخ( الامين داوؤد) وهو من اشد خصوم الجمهوريين, وهو احد (المدعين ) على الاستاذ (محمودمحمد طه) فى محكمة الردة الاولي, عند وفاته طلب الاستاذ (محمود محمد طه ) من تلاميذه قراءة سورة الاخلاص احدي عشرة (مرة )بأخلاص على روحه , وتأتي المفارقات هنا عندما حكم علي الاستاذ (محمود محمد طه) بالردة عام 85 احتشد الاخوان المسلمين فى سجن كوبر للتكبير والتهليل لاغتيال الاستاذ, وفيهم من نحر الذبائح بحسب شهود عيان, مثلما كرروا ذات المشهد عند انفصال الجنوب.
هذه المقدمة رأيت ان ابتدر بها حديثي , لتسليط الضوء علي ظاهرة سلبية تفشت في فضائنا الاجتماعي ,منذ ان استولت عصبة الجبهة الاسلامية علي سنام السلطة ( التشمت في الموتي ) فالاسلامويين هم من ادخلوا هذه الافة, فلم يحدث ان قام رسول الله(ص) بشتم موتي غير المسلمين,ناهيك عن المسلمين الذين يسبهم عصبة الراحل د الترابي, وكان في امكانه ان ينهاهم عن هذا الفعل المشين عندما شمتوا في موت الأستاذ(محمود), لأن الأستاذ(محمود) ما كان ليرضي لأتباعه بأن يأتوا بهذا الفعل المشين....!فقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بحدث رحيل د(الترابي ) ,وأنقسم الناس الي فريقين, كونه قد جاء بالعصبة التي حكمت أسوأ حقبة في تاريخ السودان, أذ شهدت تلك الفترة جرائم التعذيب في بيوت الأشباح، والإغتيالات السياسية ، وإعدام شهداء رمضان، وإعدام الشهيد مجدي محجوب ورفاقة في قضايا العملة، وتصفية الخدمة العامة بالصالح العام وتمكين أعضاء التنظيم بما أدى إلى إنهيار الخدمة المدنية , و شغلت حياته الرأي العام كونها ارتبطت بحقب زمنية مهمة ,بل ومسيطرة علي تفاصيل الاحداث ,فتجربته الطويلة في الحكم والمعارضة تستحق التأمل كونها مثار جدل كبير بعد ان اصبح عرابها الان في زمة التاريخ , ولكن لماذا لا نسأل انفسنا لماذا الانحدار لهذا الدرك السحيق والتشمت حتي في الموت...!
التاريخ يعيد نفسه عندما اغتيل الأستاذ( محمود محمد طه) الذي (شمت) فيه الاسلاميون ونحروا الذبائح ,وتطرق اتباع المرحوم د (الترابي) للأستاذ (محمود) ووصفوه بكل ما هو لا أخلاقي , مع التهليل والتكبير , للدرجة التي هتف فيها بعضهم ( سقط هبل)....؟ لقد ارتدت اليهم افعالهم, فلو احكم الترابي تربية ابنائه بمنهاج تربوي لما خرج منهم الطيب مصطفي ود نافع واسحق فضل الله, والمدهش أن( الطيب مصطفي) نفسه دخل مع د (الترابي) في معارك كان من الد اعدائه , وهو يصفه بالفاظ بعيدة عن النقد الموضوعي غير مقبولة في حق تلميذ لا ستاذه...! حتي المرحوم (محمد طه محمد احمد) تعرض لأستاذه بما هو خارج عن اللياقة والأدب,للدرجة التي دفعت ابناء الترابي للنيل منه علي طريقة(الرد باليد) فلماذا يخرج كل هذا الغثاء من جماعة الاسلام السياسي دون غيرها من الاحزاب الاخري ....؟
كعادة الاسلامويين ما ان أرتدت عليهم عليهم, لم يجدوا الاأن يشيروا الي ذكر الحديث (اذكروا محاسن موتاكم) ويتناسون الحكمة القائلة ان(الجزاء من جنس العمل)....!فتربية الاسلامويين هي التي انتهجت من الاختلاف غاية لبغض الاخرين,و العنف وسيلة لأرهاب خصومهم , وتجعلهم يكرهون من يخالفونهم الرأي حد البغضاء, فقد بدأ الأسلامويين في نعت خصومهم المتوفين بألفاظ لا أخلاقية مثل ( الهالك) ,و على سبيل المثال الأستاذ (محمود محمد طه), ود (جون قرنق) ,وشمتوا في مقتل (بولاد) الذي كان رفيقهم في يوم من الأيام , وكذلك مقتل د(خليل ابراهيم ) ابن الحركة الاسلامية ,وقد فرح الحزب الحاكم بمقتله وسير انصاره في شمال دارفور في عهد (كبر) مسيرات فرح، وغضب كثيرون لهذا التصرف...! .كل هؤلاء سخر منهم الاسلاميين بطريقة توحي بأنهم لا يستحقون رحمة المولي عز وجل....! وعندما توفى (الفريق فتحي أحمد علي) القائد الاسبق للقوات المسلحة في مصر اثناء وجوده بها عندما كان يقود المعارضة المسلحة , تكالبت عليه السيوف من اعلام النظام المأجور للنيل منه ، ولكن (عيب) بعض الواعين منهم سوء ما روجت له تلك اقلام ،وما يؤسف له أن من الذين خاضوا في (الغثاء) الاعلامي (حسين خوجلي) وليته لو صمت حينها....! فقد كتب علي جريدة الوان يقول: "نعم أن ديننا يأمرنا بذكر محاسن موتانا .. ولكنه ليس من موتانا" وواصل نيله من المتوفي قبل ان تواري جثته الثري ....!
رحم الله د حسن الترابي , واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا,ففجيعة الرحيل التي كانت بادية علي وجوه (القوم ) في لحظة التشييع,حيث بكي كثيرون وعلا نحيبهم , ولكن جملة رئيس حزب الأمة القومي ، الصادق المهدي،"إن زعيم المؤتمر الشعبي د.حسن الترابي، رحيله يمثل عظة ودرس لجميع السودانيين......!" لحظات معبرة , لعظمة الموت كانت كفيلة لتذكيرهم بالمصير المحتوم لكل( بن حواء فهو لا شك يوما علي الة حدباء محمول) الي مثواه الاخير , لبداية حياة الجرد والحساب منذ مواراة الجثمان الثري في المقابر ,التي يقول عنها الراحل صلاح ابراهيم :(هنا الاثرياء بغير صكوكهم والنقود), وفي مقطع اخر : (قبر بلا شاهد او علامة كقبر عليه رخام وسور(, حيث الجميع سواسية , فقد كان المشهد مهيبا يوحي للعامة بأنهم نادمون عن ما اقترفوه بحق الوطن المنكوب لوجه الله تعالي ,ولكنها نسخة مكررة بالكربون باتت تتكرر مع كل فقيدعزيز, نفس المشاهد رأيناها عند رحيل( الزبير محمد صالح), ولكن عجبا (لهؤلاء) أذا لم (يلين قلوبهم ) فما ان يغادر احدهم معترك الحياة الي دار ( جرد الحساب) حتي نشاهدهم يتحسسون اكفانهم كعادتهم دوما في انتزاع الدهشة واتقان فن التمثيل....! فالوجوم الذي رأيته علي وجوه الانقاذيين عند رحيل اكثر الاسلاميين (نبلا) احمد عثمان مكي في العام2008 حيث سالت فيه دموع الرجال وعلا نحيبهم....! وتكرر ذات المشهد الأن عند رحيل د الترابي, حيث فجيعة الفقد وعظمة المشهد كفيلة بأن يترك هؤلاء السلطة, ويتنازلوا عنها طواعية مع الاعتذار للشعوب السودانية....! ولكن اذا كان الموت اكبر واعظ للانسان لم يحرك فيهم ساكنا فالموت بكل قدسيته أصبح سلعة رخيصة للكسب السياسي .
من الاشياء التي ازدهرت في هذا الزمان الاغبر , تنامت ثقافة الكراهية بين المختلفين بحسب توجهاتهم وأرائهم ,وهي احدي مكانيزمات الجبهة الأسلاموية كما أشرت التي تقضي بتبخيس الاخرين الذين يخالفونهم , والاعلاء من شأن منسبيهم مهما كانت قيمتهم, وفي (مقال) لمولانا سيف لدولة حمدناالله وهو يرثي والده الأديب اذ يقول " مضى (حمدناالله عبدالقادر ) من هذه الدنيا وقد كان في وداعه بمقابر فاروق ألوف من أبنائه وإخوانه من الأهل والعشيرة، وكذلك من أصدقائه ومريديه وتلاميذه وأصدقاء وزملاء أبنائه، وبمثلما أهملت الدولة أعماله في حياته، فقد تجاهلته في وفاته، فلم تُرسل وزارة الثقافة, أو إدارة المسرح أو الإذاعة موظفاً منها بدرجة رئيس قسم ليقرأ الفاتحة على روحه ,أو يمثلها في خيمة المأتم....!"
فهل يعقل ان يحدث هذا التجاهل الرسمي تجاه شخصية بحجم الراحل المقيم (حمدناالله عبدالقادر) في اي وطن أخر غير السودان......! وهو ليس الأول ولن يكون الأخير,ونفس الشيئ حدث مع شخصيات مهمة كثيرة اسهمت في هذا الوطن ورحلت في هدوء,ولكني شخصيا لم اندهش في أمر هذه العصبة التي أعتمدت في سبيل بقائها في السلطة علي سياسة (فرق تسد) لاطالة امدها في السلطة, وأدمنت سياسة (الخيار والفقوس) لتمييز المواطن السوداني , و الادهي من ذلك يميزون بين الناس حتي في الموت, يميزون موتاهم عن الاخرين ضجيجا علي وسائل الاعلام, ففقيدهم هو شهيد ...! وفقيدهم مع الحور العين....! وفقيدهم فقد للوطن....! فما ان يغادر احد( الانقاذيين) هذه الدنيا ومهما (صغر) حجمه الا وتفتح له وسائل الاعلام علي مصراعيها , وتضفي عليه الالقاب الوطنية والدينية , بينما تنعكس الصورة عند رحيل شخصيات قدمت اسهاماتها للوطن في شتي المجالات, كحال الانظمة البوليسية في تضخيم شخوصها وانجازاتها , وبذات القدر كان الرئيس الاسبق الراحل جعفر( النميري) الذي يتشابه مع نظام الانقاذ في فترة حكمه التي دامت ستة عشر عاما من القهر والذل, (فالنميري) هو من نعي الزعيم (الازهري) في عهده بأنه الاستاذ في المدارس الثانوية دون الاشارة لزعامته ودوره النضالي في الحركة الوطنية ,كما فعل الانقاذيون مع الراحلين( ألاستاذ محمد الحسن نقد , وألاستاذ محمد وردي و مصطفي سيداحمد. وشاعر الشعب محجوب شريف ,و الفيتوري) ولولا تشابه ذاك الزمان الاسود بهذا الزمان الاكثر ظلما وفسادا لما شاهدنا مثل هذه الدراما البشعة, ولتحدثت هذه العصبة عن انجازات اولئك العظماء الذين رحلوا وخلدت ذكراهم بما يتناسب مع مقاماتهم.
لم يكن لدي الترابي مشروع نهضوي كما فعل (اروغان) في تركيا او (مهاتير محمد) في ماليزيا.فقد ظلت الحركة الاسلاموية تمثل حجر عثرة امام امكانية قيام اي مشروع نهضوي يرتقي بالوطن . فالحساب السياسي عمل مشروع ,وليس الآن وقته لأن المقام مقام عزاء وترحم ، , إنما عبد نزل فيه قضاء الله ومضى إلى مصير ليس لاحد إلا ملاقيه (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )(وإنا لله وإنا إليه راجعون ) فالترابي قد مضي الي رحاب الله ،وليس هناك ما يمنع في الدين من التعرض لسيرة المتوفي بحسب ما قدمه في حياته في الاطار العام, بأعتبار انه شخصية عامة لا بد ان تتعرض مسيرته للنقد في ميزان الصلاح للمجتمع, فكون اي شخص قد قرر الولوج للعمل العام, عليه ان يقبل تعرضه للنقد حال حياته وبعد مماته, فلو انه كان شخصا عاديا لما تعرض له احد.لكن وفاة شخصية عامة فاعلة غيرت مجريات الامور بصورة جذرية في دولة كان بإمكانها أن تساهم في تغيير مجري تاريخ البشرية، ليست كوفاة اي فرد من أفراد المجتمع,فكل الشخصيات العامة منذ قديم الزمان حتي في التاريخ الاسلامي تعرضت( للغربلة) والنقد ,وعموما تاريخ د الترابي ليس فيه ما يجعله بطلا سياسيا , وهو الذي فشلت تجربته التي اودت بالوطن الي حالنا الراهن,كون عصبته هي من انغضت علي الديمقراطية.
منهاج الأخوان المسلمين التربوي هو من ساهم علي أدلجتهم وفقا لأليات العنف والتميز وعدم القبول بالاخرين, وهذا ما يجعلهم يصرون علي أحادية الدولة السودانية ويسعون بكل قوة لأقصاء الأخرين,و لكل ما من شأنه لأن يكسب الوطن تنوعه, فقد حكي لي عمي الذي درس في جامعة الخرطوم في سبعينات القرن الماضي انه ما (كره) هؤلاء الكيزان الا لانهم يمايزون بين زملائهم , فما ان يأتي احد (الكيزان) ليسلم علي مجموعة من بينها (كوز) الا ويخص الكوز بسلام استثنائي دون الاخرين ....!(فالكوز للكوز رحمة) كما اشار لذلك مولانا سيف الدولة حمدناالله في احدي مقالاته, فقد رحل د الترابي وبالرغم من كونه ليس له أي صفة رسمية في جهاز الدولة سوي أنه رئيس حزب سياسي معارض, خصصت له كل وسائل الاعلام الرسمية وغير الرسمية ,يعكس تماما ما بيناه بخصوص منهاج هذه العصبة التي تتنافي مع الطبيعة البشرية القائمة علي التنوع والاختلاف، وقد توفى قبله محمد إبراهيم نقد وهو الآخر رئيس حزب سياسي بارز في السياحة السياسية, ولم يُجد إهتمام الاعلام الرسمي كما حدث مع الترابي وفقداء تيار الاسلام السياسي, لأن هذا هو حال النظام الحاكم مع كل من يخالفهم في معتقداتهم ,فقد رحل الفيتوري احد اساطين الشعر , ,حتي اجهزة الاعلام الرسمية (صهينت) عن (رحيله) بينما تناولته وكالات الانباء العالمية كحدث غير عادي لشخص استثنائي , وعلي ذات النهج مع شاعر الشعب محجوب شريف لم تتكرم عليه وسائل الاعلام الرسمية بمجرد نعيه كحدث مهم في الاجهزة الاعلامية ,ففي كل اوطان العالم يعظمون نجومهم اللامعة مهما كانت رؤياهم الفكرية ,و اسرائيل التي (نتتريق) عليها تجعل من استعادة اشلاء (جندي) مات من عشرون عاما او اكثر قضية شرف قومي, بينما ننتمي لاوطان لا تكلف الدولة نفسها سوي تأمين علم وطني يلف جثمان مفكريها ومبدعيها وكأنها ليست معنية الا بدفنهم.
رحيل د الترابي عن مسرح الحياة مدعاة للتأمل لما مضي وما هو أت, وبجرد حساب لما أقترفوه بحق الشعوب السودانية,حتي لا ترتد عليهم المزيد من بضاعتهم التي زرعوها, فالدنيا زائلة وفانية , مهما توسعنا فيها لا يبقي منها الا العمل الصالح ومكارم الاخلاق التي اتي من اجلها نبينا الكريم (ص), فقد رحل الزعيم الأزهري بسيرة عطرة نقية تجعل كل من سمع أسمه لأن يدعو له بالرحمة والمغفرة , ومثلهم مضي الطيب صالح الي رحاب الله الواسعة وقدم السودان الي العالم في لوحة جمالية ستذكره الأجيال أبد الدهر....!ومضي شاعر الشعب محجوب شريف الي الضفة الاخري, وخلف وراءه سلسلة من الاعمال الانسانية هي مدعاة للتأمل, وعلي ذات الطريق مضي الاستاذ مصطفي سيد احمد الذي ضحي بالحياة ومتعتها من اجلنا جميعا .....!وفي رحاب الخالدين مضي الفيتوري الذي حمل هم الوطن ,معتزا بأفريقيته, و كتب أسمه بمداد من نور , ...!ورحل المبدع ابو المسرح حمدناالله عبدالقادر الي رحاب الله بنقاء سريرته وترك لنا تركة مثقلة بالابداع , وفي سجله من الاعمال التي سنتبه لها اول حكومة ديمقراطية لتكرمه وتوثق له بما يستحق.....!وسيستمر رحيل النبلاء في هذا الوطن الي ان يردوه عن غربته.
لكن علي الانقاذيين ان يتدبروا من الموت قبل فوات الاوان ,ليتذكروا ماذا قدموا لهذا الوطن المثخن بجراحاته.....ّ! وعلي غرار( الفريد نوبل) الذي اخترع الديناميت احزنه ان خبرا عن وفاته عن طريق الخطأ قد نشرته احدي الصحف مصحوبا بنعي لرجل اساء للانسانية وخلف الموت والدمار , وأصاب هذا النعي عن طريق الخطأ ضمير( نوبل ) بالاسي وصحي ضميره لانه لم يخلف وراءه اثرا حميدا يذكر به عند موته ,فكانت سببا في ان يقدم (جائزة نوبل للسلام) لمحو اثار الديناميت, وحكام الانقاذ حتي الان لم يقدموا للشعب السوداني ما يمحوا حكم 27 عاما من القهر والذل وحكم الاستبداد.فقد ذهب النميري وفي سجله تاريخ حكمه لحقبة من أسوأ الحقب, وجاءت من بعده عصبة الانقاذ وكانت الاسوأ من سلفها , وستذهب بأذن الله الي مذبلة التاريخ دون ان تخلف وراءها اثرا حميدا كما تدارك (نوبل) الامر وصحح خطأه, فهؤلاء الطغاة لا يتعظون من الموت , ولايتدبرون القران, ولا يقرأون التاريخ لأخذ العبر والدروس , ولكن هذه هي الحياة يموت سلاطينها ,وزعمائها ,وحكامها ,و اشرارها, وخياراها ,كما يموت عوامها ,وطغاتها الذين نكلوا بشعوبهم, وكأنهم سيخلدوا في هذه الدنيا ولن يموتوا او يحاسبوا علي ما اقترفوه من ذنوب تجاه شعوبهم , لأن الظلم الظلمات يوم ان نقف بين يدي العادل الجبار , الذي لا يظلم امامه احد, فويل لهؤلاء من قاضي السماء الذي يعلم السر واخفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق