مندي ابنة السلطان عجبنا واحدة من نساء السودان العظيمات اللائي خلّدن أسماءهن بأحرفٍ من نور في سجل البطولة والفداء ، واللائي ستظل مآثرهن نبراساً مضيئاً يهدي الأجيال المتعاقبة في بلادنا للسير نحو أسمى المراقي في طريق التضحية والحرية والوطنية الصادقة.
كانت " مندي " امرأةً شابة متزوجة ومنجبة ، خلال الربع الأول من القرن العشرين. وقد كانت أميرةً ، إذ ان والدها هو السلطان " عجبنا بن أروجا " ، سلطان قبيلة " النيمانغ " الذين تقع منطقتهم بالقرب من مدينة الدلنج بجبال النوبة.
برزت بطولة الأميرة " مندي " في سياق نضال مواطني جبال النوبة ، وتصديهم الباسل لمحاولات غزوها بواسطة قوات الاستعمار البريطاني المنتشية بانتصارها قبل ذلك ببضعة أعوام فقط على الدولة المهدية ، فوق تلال من الأجساد الطاهرة ، وشلالات من الدماء الزكية التي ضمخت ثرى مواقع " كررى " و " أم دبيكرات " وغيرها.
فقد بدأت محاولات القوة الاستعمارية الغاشمة إخضاع جبال النوبة لسيطرتها منذ مطلع القرن العشرين ، أي في غضون نفس العقد الذي وطئت فيه أقدامهم أرض الوطن.
ففي عام 1908 ، خاضت قوات الاستعمار الإنجليزي معركة شرسة ضد أحد الزعماء القبليين في تلك المنطقة ، يسمى " دارجول " ، ولكن الإنجليز لم يتمكنوا من هزيمته أو القضاء على مقاتليه قضاءً مبرماً ، فاكتفوا بإبرام اتفاق يقضي بوقف الاعتداء ،كما دفع بموجبه " دار جول " بعض التعويضات لهم.
على أن الأمر لم يقف ضد ذلك الحد ، إذ ما لبث الإنجليز ان شنوا حملة عسكرية خاطفة بهدف القضاء على السلطان عجبنا ، سلطان النيمانغ ، حيث قاد المستر " هتون " الإنجليزي مفتش مركز الدلنج آنئذِ في عام 1917م ، حملة منظمة ضد منطقتي " كرمتي " و " تنديه " ، حيث لقي ذلك المفتش مصرعة إثر رصاصة أطلقها عليه أحد الثوار الذين كانوا مرتكزين في مواقع لهم بجبل " حجر السلطان ".
أثارت تلك الحادثة غضب المستعمرين الإنجليز ، فشنوا حملة مكثفة على السلطان عجبنا وقواته من ثلاثة محاور ، فحصروهم حصاراً محكماً ، وعزلوهم بصفة خاصة عن مصادر مياه الشرب ، ثم ضيقوا الخناق على تلك القوات حتى أشرف مغظم أفرادها على الهلاك. بيد أنهم استمروا – مع ذلك – في المقاومة الضارية ، ومنازلة القوات الاستعمارية الغاصبة بكل ما كان لديهم من قوة وبسالة.
ولما وصلت الأخبار إلى الأميرة مندي عن تأزم الوضع بالنسبة لأبيها السلطان وجنوده ، وخصوصاً استيلاء الجيش الغازي على مصادر المياه ، ثارت و انتفضت ، وتمنطقت بثوبها مشمرةً ، وحملت بندقيةً ، وأعلنت بكل تصميم عن عزمها الذهاب إلى موقع القتال. ولما حاول بعض الأقارب وأفراد الحاشية إثناءها عن المسير إلى أرض المعركة ، بحجة أن الموقف كان في غاية التأزم ، وأن الطريق المؤدي إليها ملئ بالمخاطر والأهوال ، وأن الأعداء باتوا يحاصرون والدها ومقاتليه من جميع الجهات ، غضبت الأميرة مندي غضبة عارمة ، ورمت بإناء من القرع " بُخسة " كانت تحملها على الأرض ، فتكسّرت شظايا. وذلك تعبير عن أقصي درجات العزم والتصميم على فعل أي شئ في ثقافة النيمانغ. ثم جعلت تصيح فيمن حولها: أن افسحوا لي الطريق ودعوني أنطلق ، حتى ألحق بأبي وقومه ، فأقدم لهم النجدة والدعم والمساندة. ثم إنها ربطت طفلها الرضيع على ظهرها ربطاً محكماً ، وهرولت به نحو أرض المعركة لا تلوي على شئ.
فلما رأى بعض من تخلف من رجال قومها صنيعها ذاك ، ثارت حميتهم أيضاً ، وحملوا أسلحتهم وانطلقوا معها إلى ساحة القتال ، مما أعطى أباها السلطان عجبنا وجيشه سنداً معنوياً معتبراً ، وبث فيهم حماسة وقوة إضافية ، فاستبسلوا في القتال غاية الاستبسال ، رداً لعدوان العدو الغاشم ، وصوناً للأرض والعرض.
بيد أن الآلة العسكرية المتطورة والفتاكة لقوات المستعمرين ، قد كانت لها الغلبة في آخر المطاف ، فسقط المئات من جيش السلطان عجبنا شهداء الحق والواجب على أرض المعركة ، بمن فيهم طفل مندي الرضيع الذي كانت قد حملته معها.
وكان نصيب السلطان عجبنا وأحد أصدقائه ورفاقه يدعى " كلكون " الأسر. ثم ما لبثا أن حكم عليهما بالإعدام شنقاً ، ونفذ الحكم ، فذهبا إلى ربهما شهيدين بتاريخ 27 – 12 – 1917م.
ثم رجعت الأميرة مندي وبقية من كتبت لهم النجاة من الموت في تلك المعركة إلى ديار القبيلة ، تجلل هاماتهم أكاليل الغار بسبب المواقف البطولية المشرفة التي وقفوها تحت قيادة أميرتهم وقائدتهم " مندي " التي صارت مآثر بطولتها من بعد ، أهزوجة حلوة تتناقلها الأجيال المختلفة وتتغنى بها ، بل صارت المقطوعة الموسيقية المصاحبة لتلك الأهزوجة ، ألا وهي مقطوعة " مندي " ، واحداً من أروع " المارشات " للقوات المسلحة السودانية منذ ذلك التاريخ وحتى يوم الناس هذا.
سودنايل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق