(1) الشكر أجزله للأخ محمد الحسن المهدي، أحد العاملين بمكتب الإمام الصادق المهدي، على رسالته الكريمة التي أعاد بها إلينا الأمل في أن السودان ما يزال بخير. جاءت رسالة المهدي (الأول) تعليقاً على مقالي في هذه الصحيفة بتاريخ 11 أيار/مايو الجاري، حين تحسرت على ظواهر لم نشهد مثلها في السودان من قبل، تمثلت في اضطرار طلاب من دارفور للهرب من جامعة دنقلا، فلم يجدوا من يؤويهم أو حتى ينقلهم.
(2)
في رسالة المهدي أبلغني أن أهل قرية رومي البكري التي تقع الجامعة بالقرب منها، استنكروا ما بدر من سائقي الحافلات من رفض لنقل طلاب دارفور، وقاموا باستضافتهم وإكرامهم. ولم يترك أهل القرية الطلاب إلا بعد تأمين حافلة لنقلهم إلى مأمنهم، وصحبوهم حتى استغلوا حافلتهم، وأصروا أن يحملوا عنهم حقائبهم. وقد بعث المهدي بصور تؤكد الواقعة.
(3)
لم أسمع منذ زمن طويل من السودان خبراً أسعد من هذا، لأنه يؤكد ما نعلمه عن هذا الوطن الغالي، رغم عاديات الزمان وجنايات السياسيين وفظائع الميليشيات. فأهلنا كما عهدناهم على وصف شوقي لإخوتنا الدروز: «ذادة وقراة ضيف، كينبوع الصفا خشنوا ورقوا». فالتحية لأهل رومي البكري، غشيهم السحاب، وأظلهم رضوان الله، وبارك فيهم أبد الآبدين. فقد ذكرونا بأن أهل السودان كانوا وما يزالون أكثر شعوب العالم تحضراً. وتزداد قيمة التمسك بتلك القيم الحضارية الإيمانية في مثل هذا الزمان المظلم، ففي عتمة الليل يكون ضوء النجوم أكثر إشعاعاً.
(4)
جاء في الروايات المتداولة بين أهل السودان أن بعض ملوك سنار غزا في القرن السابع عشر سلطنة تقلي الواقعة في الجبل الحصين المسمى بهذا الاسم في منطقة جبال النوبة. فكان ملك تقلي يقاتل الغزاة بالنهار، فإذا حل الليل بعث إليهم بالطعام باعتبارهم ضيوفاً في أرضه يحق لهم القرى. فلما تكرر هذه خجل القوم وعادوا بعد أن صالحوا ملك تقلي، فاحتفظت المملكة باستقلالها حتى غزا جيش محمد علي السودان بعد ذلك بقرنين.
(5)
بغض النظر عن صحة هذه الأسطورة فإنها تعبر عن تقدير أهل السودان لقيم قرى الضيف وإكرامه، حتى في أحلك الظروف، وحتى حين يكون باغياً غازياً. هذه قيم ما يزال أهل السودان يعتدون بها، حيث يتعامل الكل بتحضر يندر مثله مع خصوم الحرب كما مع خصوم السياسة حين يجتمعون خارج حلبات الصراع. بل إن الزائر لمعسكرات النازحين في دارفور يجد الحفاوة والإكرام من قوم فقدوا كل شيء.
(6)
ولكن استمرارية هذا التحضر في خطر كبير، لأنه لا يعقل ألا يتأثر تعامل الناس مع بعضهم البعض بكل الفظائع التي ترتكب، والسكوت عليها وتجاهلها، بل وحتى التباهي بها. ذلك أنه في وقت من الأوقات، سيفقد مثل هذا التصرف معناه وقيمته، ويصبح أقرب إلى البلاهة منه إلى الفضيلة.
(7)
لقد تعكر مناخ التعايش المتحضر في السودان سلفاً باستمرار وتوسع الحروب، وموقف الدولة التي أصبحت ميليشيا بين الميليشيات. وقد بلغ الأمر حداً أن تعددت وتوسعت الصراعات القبلية، وأصبح الجار يقتل الجار، والأخ أخاه. وانتشر خطاب البغضاء والنقمة مثل السرطان حتى لم يعد يسلم منه إلا من رحم ربك. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، فستكون العاقبة وخيمة على الكل. وحتى حين لا تؤدي البغضاء إلى العنف فإنها داء وبيل، يحرق قلب صاحبه، وينغص عيشه، فيشقى لكل خير يناله الآخرون، ويعذب نفسه قبل أن يناله عذاب في الدنيا أو الآخرة.
(8)
نحتاج وبلادنا إلى ثورة الخيرين من مثال أهل رومية البكري وأضرابهم حتى يتسنى إنقاذ السودان المتحضر من براثن وحوش الإجرام والكراهية المتكالبة عليه. فالسلوك المتحضر قادر على هزيمة الكراهية والحقد والجريمة، كما جاء في صحيح التنزيل: «وادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبنيه عداوة كأنه ولي حميم». صدق الله العظيم.
(9)
لا بد أن أضيف هنا أن الجناية فيما وقع ليس على الحكومة وحدها، فقد انتشرت ثقافة العنف والبغضاء للأسف، بل وأصبحت مكان تمجيد. وإن كان أنصار النظام يحملون الوزر الأكبر في هذا، فهم لم يكونوا البادئين بالعنف دائماً، ودنقلا لم تكن استثناءً. فأنصار الميليشيات القبلية (وهناك قبلية سياسية كما هناك قبلية عرقية) ساهموا كذلك في نشر البغضاء في جامعاتنا. فليصبح كل السودان رومي البكري حتى نشفى جميعاً من البغضاء القاتلة.
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
د. عبدالوهاب الأفندي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق