تحديات كبيرة واجهت المستعمر البريطاني، ومن بعده الحكومات الوطنية المتعاقبة، في كيفية إدارة السودان متمدد ومتعدد الثقافات والمناخات والموارد، إلاّ أنّ هؤلاء أفلحوا في إشراك المواطن في حكم ذاته وحماية موارده، عبر نظام الإدارة الأهلية، برجالها الذين لاقوا القبول.كنت عام 2000 أبحث في شأن إدارة الموارد الطبيعية، وما اعترى الأمر من بوادر نزاع، تصاعد في بعض المناطق ليتحول إلى حروب طاحنة. في مدينة الرهد، في شمال كردفان، التقيت بالشيخين، عبد القادر الحاج، وسليمان عبد الله الفكي، من قبيلة الجوامعة، واللذين وجّها إصبع الاتهام إلى التخلي عن الإدارة الأهلية في السبعينيات والاستعانة بـ"الغرباء" للحكم في شؤون الناس.في أحاديث الشيخين وآخرين، التقيت بهم، تأكيد على دور رجال الإدارة الأهلية في حماية الإنسان وأرضه وموارده وثقافته بحكم السلطات الممنوحة لهم، وما اكتسبوه من ثقة الأهالي وتقديرهم لهم بمختلف تسمياتهم من قبيلة إلى أخرى. فوفقاً للتسمية تأتي المهام، التي تصبح من الواجبات التي يراقب الجميع القائم عليها، فإما أن يُشهَد له بالكفاءة والأمانة، أو يُرفَض ويُبعَد. بل كان لرجال الإدارة الأهلية الحق في طلب إبعاد حتى الموظفين الأجانب . فالشيوخ والعمد ونظار القبائل والشراتي، بحسب التسميات المختلفة، كانوا أصحاب هيبة، لا بحكم سلطانهم، بل لأنّ أفعالهم تجبر الآخرين على احترامهم، وتمنحهم أحكامهم العادلة وسلوكهم الإنساني القبول لدى مواطنيهم.والسعيد من بين هؤلاء هو من يتم الاتفاق على استخدام الدهن، المستخرج من شياهه، في عادة "قسم النار". وجرى العرف حين يُفصل في شأن يخص الأمانة، أن يجلب دهن شاة تخص رجلاً يشهد له الجميع بالنقاء والأمانة، فيوضع في قدر على النار، وتوضع داخل القدر إبرة خياطة، ويطلب من المتهم أن يقسم بنفي التهمة عنه، وإدخال يده داخل القدر لجلب الإبرة، فإن احترقت يده فهو مدان، وإن أمن الاحتراق فهو بريء.أبطل العمل بهذه العادة كما يؤكد الشيخان لعدم اعتراف القانون المدني بها. كما أنّ أحداً لا يضمن نزاهة من يحكم اليوم، فهو قبل أن يكون "غريباً"، فإنه ينظر إلى الآخرين بفوقية.كانت الأرض وبموجب حكم الإدارة الأهلية تمنح لاستصلاحها وفقاً لمعرفة من يَحكم بمن يُحكم، وهكذا تجمع الضرائب، التي تعود على المواطن بمنافع ملموسة (إرشاد زراعي وبيطري، وتطبيب، وغيرهما)، بل حتى في حالة النزوح هناك عُرف سائد تمنح بموجبه الأرض للمجموعة النازحة لزراعتها والرعي فيها من دون أن يكون لها حق الامتلاك حتى رحيلها. - عندما-كانت-الإدارة-الأهلية-تحكم-في-السودان
محمد أحمد الفيلابي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق