ثمة حكمة تقول إن الأخطاء كالأعشاب الميتة تطفو على سطح البحر، بينما اللؤلؤ يبقى في القاع، بالتالي على من يرغب في اقتنائه أن يغوص إلى الأعماق. وبالمقارنة مع جبل الجليد الذي يُخفي أضعاف ما يُظهر، دعونا نقول إن الحقيقة التي نرنو إليها هي اللؤلؤ والأصداف النادرة، أما المتداول عبر الإعلام الرسمي لأية دولة فهو أعشاب ميتة لا غير. هكذا هي الحقائق التي تغيب أو تُغيّب عن المواطن، حتى لا يلمس ما هو محدق به من خطر داهم. في يوليو/تموز من عام 2006 دخلنا منطقة الكدالو جنوب ولاية النيل الأزرق، في جنوب شرق السودان. كان ذلك بعد توقف الحرب على أثر اتفاقية السلام (2005). هناك، توقفنا عند نقيضَين متعايشَين: الفقر البشري والغنى البيئي. وكانت الغابات قد وجدت الهدنة الكافية لتستعيد عافيتها بعدما هرب تجار الخشب بآلياتهم الوحشية ومناشيرهم التي طردت الحيوانات والطيور صغيرها وكبيرها. كذلك وجدت الشجيرات والأعشاب الفرصة لتنمو وتتكاثر في غياب الرعاة وقطعانهم. وتنفّست البيئة ملء رئتَيها. رن جرس الخروج ساعة الإفطار في إحدى المدارس، التي بدأت تستعيد نشاطها بعد توقف طال. رحت أراقب التلاميذ الذين تخطوا بمعظمهم مرحلة الطفولة، فوجدتهم لا يتّجهون إلى بيوت القرية بل إلى الغابة في الاتجاه المعاكس. وعلمت لاحقاً أن ما من طعام في البيوت، لذا يدخلون الغابة بحثاً عن ثمار الدوم واللالوب والنبق وربما قليل من الصمغ. الصورة - حتماً - لا تقتصر على قرى الكدالو. فمحرّكو دمى الصراع استطاعوا أن يملأوا مسرح أفريقيا ودول العالم الثالث بعروض كثيرة تحكي قصص النزاع حول الموارد، لينفتح المجال واسعاً أمام مبادرات لإحلال السلام. والسلام هو أسلوب التعامل مع الموارد عامة بما في ذلك الموارد البشرية، والأراضي واستخداماتها، والموارد المائية والغابية، وحق الإنسان في بيئة توفر له العيش المستدام. لذا، كنا يومها نروّج وننادي باستخدام المعارف التقليدية والأطر التراثية تعظيماً لرأس المال الاجتماعي لإحلال السلام المستدام، فاتهمنا البعض بمحاولة الانحراف بالخطاب البيئي. المناداة بمشاركة المواطن في العمل العلمي المدروس، والحديث عن معادلة شح الموارد والنزاع، وأسلوب فضّ النزاع المحقق للعدالة، ومدى إسهام المنهج في الحفاظ على التوازن البيئي، كل ذلك جعل منا في نظر بعض الناس سياسيين يضعون أقنعة البيئة. ونُصبت العراقيل في طريقنا ليستمرّ النهج ذاته الذي يخرّب البيئة والذي يقصي المواطن. قبل مغادرتنا قرى الكدالو، كنا قد أمسكنا بأول خيوط بناء السلام الاجتماعي عبر إحلال السلام البيئي. لكن ثمة من لا يرغب في ذلك.
محمد أحمد الفيلابيمتخصص في شؤون البيئة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق