- أفضل تصرف يمكن لرئيس القضاء عمله مع قاضي محكمة جنايات أمدرمان الذي أصدر الحكم بالجلد عشرون جلدة وقام بتنفيذه فور صدوره على قياديين بحزب المؤتمر السوداني (الإثنين 6/7/2015) بتهمةالإزعاج العام بسبب مخاطبتهم حشد ضمن الحملة التي نظمتها المعارضة لمقاطعة الإنتخابات، أفضل تصرف يليق بهذا القاضي هو أن يُنقل من عمله القضائي وبصفة فورية إلى أي أعمال أخرى غير قضائية، كأن يُعهد إليه بإدارة بوفيه المحكمة أو بالإشراف على مشروع تربية “أبقار القضاة”.
- لا يمكن النظر لهذا الحكم بإعتبار أنه مجرد فعل صدر من قاضٍ جاهل وليس له علاقة بالقانون، فحقيقة ما فعله هذا القاضي أنه إستخدم القانون كسلاح في إرتكاب جريمة تسبيب الأذى الجسماني وإهانة وتحقير خصوم سياسيين، فالمادة التي إستخدمها هذا القاضي في تنفيذ هذا الجلد الجائر (77/1) من قانون العقوبات(الإزعاج العام) تشتمل على عبارات واضحة في توصيف أركان الفعل الذي يشكل الجريمة، فالمادة تفسر نفسها بنفسها ويستطيع أي كبش ليس له علاقة بالقانون أن يقوم بفهمها على نحو لا شك فيه، حيث تنص المادة على وقوع الجريمة إذا أتى الجاني فعلاً من شأنه أن يسبب ضرراً أو خطراً عاماً أو أزعاجاً ومضايقة للجمهور أو لجيران المكان الذي وقع فيه الفعل، وغني عن القول أن شيئاً من ذلك لم يحدث ولم تُقدّم بشأنه بينة في الإتهام ولم تسمع المحكمة شهوداً من جيران المكان (موقف للمواصلات) وقع عليهم ضرراً من الإزعاج المُدّعَى بوقوعه.
- ثم أنه، وبفرض إرتكاب جريمة الإزعاج العام، فإن القانون لا يعاقب عليها بعقوبة الجلد، فقد نص القانون على العقوبة والتدابير التي يمكن للقاضي أن يتخذها في حال وقوع جريمة الإزعاج العام بالفقرة (2) من نفس المادة، ويقتصر ذلك على سلطة القاضي في إصدار الأمر للجاني بالتوقف عن الفعل الذي تسبب في الإزعاج وعدم تكراره، أوتوقيع عقوبة السجن مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً. والحال كذلك، من أين جاء هذا القاضي الفهلوي بعقوبة الجلد التي قام بتوقيعها دون وجود نص يسعفه في ذلك !!
- في تقديري أن هذا الحكم يعتبر بمثابة آخر مسمار في نعش قضاء السودان، وهو حكم يكشف عن المدى الذي بلغ به تسييس القضاء وإستخدامه كأداة في الإنتقام من الخصوم، ذلك أنه لم يحدث في تاريخ السودان الحديث (بما في ذلك العهد التركي والبريطاني) أن قامت محكمة بتوقيع عقوبة الجلد على متهم في قضية سياسية، ففضلاً على عدم جواز توقيع عقوبة الجلد على الرجال طبقاً للقوانين المتعاقبة كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، فإن الجلد بالنسبة للرجل (السوداني) يحمل معنى المهانة أكثر من العقوبة،ويقبل في مقابله أن يمضي عقوبة السجن مهما طال أمده والغرامة مهما بلغت فداحتها.
- واقع الأمر، ان قانون العقوبات السوداني منذ نشأته في 1925 وحتى صدور قوانين سبتمبر1983، لم يكن يعرف عقوبة “الجلد” التي كانت توقّع كعقوبة تأديبية (بديلة) للعقوبة الأصلية المنصوص عليها للجريمة المعينة في القانون، وكانت تُوقّع (فقط) على الصبيان الجانحين من الأحداث (لم تكن توقّع على الفتيات)، والهدف من ذلك – كما يتبادر للذهن – هو تفادي إرسال الصبيان الذين يتورطون في إرتكاب جرائم للسجن أو الإصلاحية مما يتسبب في تدمير مستقبلهم الدراسيفضلاً عن تفادي إختلاطهم بمجرمين بالغين اثناء فترة تنفيذ العقوبة، وقد وضعت الأجيال المتعاقبة من القضاة الأفذاذ، سلسلة من السوابق القضائية التي كانت تتضمن شروح وتوضيحات الفلسفة العقابية لكل نوع من الجرائم، بما يضمن إتساق العقوبة التي تصدرها أي محكمة مع ما تصدره إخواتها بالسودان في جرائم مشابهة في النوع والظروف، بما يضمن تناغم “السياسة العقابية”، وحتى لا يتوقف مصير المتهم على مقدار ما يحمله قلب القاضي من قسوة أو ما يملؤه من عطف وحنان، وقد إختلت هذه السياسة أيّما إختلال بصدور تشريعات سبتمبر 1983 في عهد النميري الذي جعل عقوبة الجلد عقوبة (إلزامية) لجميع الجرائم الواردة في قانون العقوبات.
- مشكلة هذا القاضي التعيس أنه فات عليه أن مثل الفعل الذي حكم بجلد أصحابه (مخاطبة الجمهور في شأن سياسي)، كان يقوم بجنسه ويفوقه في المقدار في ذات التاريخ رئيس الجمهورية ونوابه ومساعدوه والوزراء في كل ناحية من نواحي الوطن، يحثون الناس على المشاركة في الإنتخابات ومنحهم أصواتهم، وبخلاف الذين تسلّط عليهم هذا القاضي ممن كانوا يخاطبون الجمهور وهم يقفون على أرض مستوية وبلا مكبرات للصوت، فإن مخاطبة أهل النظام كانت تُقفل لها الطرقات وتُستخدم لها الساحات والميادين العامة وتُنصب لها الخيام والمنصّات ويُشارك فيها المطربون بالوصلات الغنائية بأصوات صاخبة وبمكبرات الصوت ويرقص فيها آلاف من الرجال والنساء والشيوخ تحت قيادة رئيس الجمهورية.
- سوف يأتي اليوم الذي تزول عن هؤلاء الكيزان السلطة، وسوف يعودون إلى ما برعوا فيه في تنظيم التظاهرات والإحتجاجات ضد أي حكومة ديمقراطية أو عسكرية، كما قد يعودون إلى العمل المسلّح، كما فعلوا ضد النميري في عام 1976، فليس هناك أبرع من الكيزان في الخروج على القانون بغرض تحقيق أهداف سياسية،فهم الذين إبتدعوا عبارة (المسيرة الميلونية) في وصف التظاهرات التي يقومون بتنظيمها ويشترك فيها بضع مئات دون أن يحصلوا على إذن أو ترخيص، وتقوم قياداتهم بمخاطبة اللقاءات والمسيرات بمكبرات الصوت وبدونها،ولو أن أهل النظام كانوا يدركون مصلحتهم على وجه صحيح لما ساروا خطوة واحدة في هذا الطريق بسن سابقة الحكم بجلد الخصوم السياسيين في قضايا سياسية، فأبدانهم لا تُطيق الجلد بعد الرغد والنعيم الذي تمرغوا فيه لكل هذه السنوات.
- لا يوجد تفسير لما فعله هذا القاضي من غلو وشطط بتوقيع هذه العقوبة دون سند في العدالة أو القانون سوى أنه قصد من ذلك إرضاء النظام بإهانة وتحقير خصومه السياسيين، وفي هذا ما يُشير إلى أن هذا القاضي لا ينظر حوله ولا يرى أبعد من أرنبة أنفه، ولو أنه رفع رأسه ليسأل عن مصير الذين سبقوه في سلوك هذا الطريق لرأى عليه لافتة كبيرة تُشير إلى أن هذا طريق إسمه “طريق الندامة” فقد سار فيه من قبله كثيرون، آخرهم القاضي سرالختم الذي لم يترك ظهراً لشخص مثل بين يديه (ذكراً أو أنثى) لم يلهبه بسياطه (راجع مذكرات الناشطة نجلاء سيدأحمد التي تُنشر بعدد من المواقع الإسفيرية هذه الأيام)، فقد كان مولعاً بجلد الخلق بقانون وبدون قانون، حتى أنه أصدر حكماً في قضية قتل حكم فيها على القاتل بالإعدام شنقاً حتى الموت مع الجلد مائة جلدة (صدر هذا الحكم بحق القاتل في القضية امعروفة بقضية “الطفلة مرام”)، فقد هرب هذا القاضي إلى بريطانيا حيث طلب اللجوء السياسي وهو يعيش اليوم هناك جنباً إلى جنب مع ضحاياه من مطاريد النظام، كما عليه أن يسأل عن مصير من سبقوه من القضاة الذين فعلوا مثله وباعوا ضمائرهم ووضعوا أنفسهم في خدمة النظام، مثلالذي حكم بالإعدام على الشهيد مجدي محجوب وكذلك القضاة الذين حكموا بنفس الحكم على شهداء سبتمبر دون أن يمنحهوم حق الدفاع عن أنفسهم ومن بين الذين تم إعدامهم ثلاثة ثبت أنهم كانوا رهن الإعتقال وقت تنفيذ الإنقلاب.
- وبالعودة إلى ما بدأنا به هذا المقال، لا بد أن يقوم رئيس القضاءبإبعاد هذا القاضي من ممارسة مهنة تطبيق القانون وندبه للعمل في أي عمل آخر، حتى ينمحي العار الذي تسبب فيه من الذاكرة، فليس في مصلحة الوطن أن تلجأ الحكومات لهذا “البُطان” في تحقير وإهانة الخصوم السياسيين، وحتى لا يخرج من ينادي غداً “الجلد بالجلد والبادئ أظلم”.
سيف الدولة حمدنا الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق