تبرعت الولايات المتحدة بمبلغ 68 مليون دولار، من أجل إطعام الجياع في السودان. هذا خبر تناقلته وكالات الأنباء العالمية، وبثته وسائل الإعلام المختلفة. وهو أمر يدعو إلى الحسرة، ويذكّرنا جميعاً بعجزنا عن إيجاد الحلول للمشكلات المستعصية حالياً، وهي المشكلات نفسها التي اعتقدنا يوماً أن حلها ميسور وسهل.تقول الإحصائيات المتاحة أن عجز الغذاء العربي يبلغ على الأقل 35 بليون دولار في السنة، ينفق معظمها على شراء القمح واللحوم الحمراء. والعجز الغذائي العربي مرشح للزيادة والتفاقم، بسبب التراجع في القدرات الإنتاجية العربية، إما بسبب شح المياه، أو نتيجة تآكل الرقع الزراعية، أو لتعذر الإنتاج في ظل الحالة الأمنية والعسكرية الراهنة في دول عربية كثيرة قادرة على الإنتاج.كم تغنينا بوفرة الإمكانات الزراعية الحقلية وتربية الأغنام والأبقار المتاحة في السودان. ومع أن الإنتاج الزراعي ارتفع هناك، إلا أنه ما يزال بعيداً جداً عن الكفاية. وتسعى الحكومة السودانية لجذب الاستثمار، إلا أن التجاوب قليل بعد تجارب كثيرة فاشلة، بسبب المشكلات مع الأهالي، أو بسبب ضعف البنى التحتية، أو لنقص المتاح من العملات الأجنبية.لا تقف القضية عند هذا الحد، فقد قامت دولٌ عربية، خصوصاً في منطقة الخليج، بالاستثمار الكبير في المناطق الزراعية الهامشية، ذات الكلفة العالية، وباستخدام المياه الجوفية غير القابلة للتعويض على المدى القصير والمتوسط، وحققت هذه السياسات أرباحاً للمستثمرين، وقد جعل ارتفاع الملوحة المياه غير صالحة للاستعمال البشري أو الزراعي، وضخ مبالغ كبيرة لدعم الإنتاج، على الأقل في السنوات الأولى.
قلما تجد دولةً عربيةً واحدة لا تضع هدف الوصول إلى الاعتماد الذاتي في الغذاء، لكن هذه الشعارات تبقى في معظمها كذلك، شعارات لا يتحقق منها إلا القدر اليسير. هنالك بالطبع مشروعات زراعية ناجحة في بعض الأقطار العربية، مثل المغرب وتونس والأردن والسعودية ولبنان ومصر والجزائر وغيرها، لكن الحصيلة العربية الإجمالية ما تزال تسجل عجزاً متزايداً في الميزان التجاري الغذائي، وتفتح المستقبل على مخاوف أكبر. لاحظنا ازدياداً كبيراً في سكان المدن على حساب المناطق الريفية. وتدل الإحصاءات في معظم الدول العربية على أن الهجرة من الريف إلى المدينة مستمرة، أي أن أعداد مستهلكي الغذاء في المدن يرتفع على حساب المنتجين في الأرياف والمناطق الزراعية. وكذلك تراجعت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي، لا بسبب تراجع حجم الإنتاج. ولكن، لأن مزيداً من المدخلات الزراعية مثل البذار المحسّنة، والمبيدات، والمكائن، والفسائل، ووسائل الري، والأسمدة وغيرها، مستوردة من الخارج، فإن يقلل من القيمة المضافة الصافية للقطاع الزراعي في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. " قلما تجد دولةً عربيةً واحدة لا تضع هدف الوصول إلى الاعتماد الذاتي في الغذاء" وقد تراجعت تلك النسبة في كثير من الأقطار العربية التي كانت تسمى البلدان الزراعية في خمسينيات القرن الماضي، من حوالى 50-60 % من الناتج الإجمالي إلى أقل من 5 % في معظم هذه الدول.لم نعد ننتج قمحاً يكفينا، نستورده من الولايات المتحدة، وكندا، وروسيا وجنوب أفريقيا. ولا ننتج ما يكفينا من كل السلع التي كانت مواد تصديرية، مثل القمح، والشعير، والذرة، واللحوم الحمراء، والأسماك، والقطن، والأرز، والسكر، وصارت كلها مواد أساسية مستوردة. ويزيد الطين بلّةً أن السلع الغذائية الرئيسية يتحكم في تجارتها عالمياً عدد محدود من الشركات العائلية المعروفة (لا يزيد عددها عن سبع)، ولكل شركة وكلاؤها الأقوياء في المنطقة. وحتى لمّا أنشأت الدول وزارات تموين، من أجل ضمان شراء هذه السلع بأسعار أقل، وبيعها للناس بربح قليل، أو بدون ربح، وأحياناً بدعم، فإن الشراء الحكومي ينجز بواسطة عطاءاتٍ، يفوز بها الوكلاء أنفسهم للشركات العالمية نفسها.نسمع في الأخبار كثيراً عن رفض شحنة قمح أو سكر أو أرز، إما لأنه تالف، أو لأن المواصفات غير مطابقة. وفي كل مرةٍ، تبرز قصة كهذه تذكّرنا بحالنا العربي العاجز عن إنتاج طعامه. دول عربية كثيرة حالياً في حالة حرب. ودولٌ، مثل العراق وسورية واليمن والصومال، تعاني من حروبٍ وويلاتٍ أثرت تأثيراً مباشراً على إنتاجها الزراعي. ومياه أنهارنا الأساسية إما مهددة بالتحول عنا، أو أنها حولت فعلاً . فهل نحن واثقون أننا سنبقى قادرين على زيادة إنتاجنا العربي الغذائي، أو حتى القطري الغذائي؟ أم أن غذاءنا سيصبح وسيلة ضغط علينا من الذين يزودوننا به؟ هناك أحداث ومقولات حصلت يجب ألا ننساها. من منا ينسى ما قاله أحد كبار المسؤولين الغربيين بعد أزمة النفط عام 1973 - 1974:"سيأتي يوم نقايض فيه برميل النفط بصاع من قمح"؟ أو من ينسى حصار العراق إبّان التسعينيات من القرن الماضي حتى غزو العراق عام 2003 (الغذاء والدواء)؟ هنالك أمثلة كثيرة. والمطلوب منا على الأقل أن نتوصل إلى اتفاق عربي على احترام حق المواطن في غذائه. كعمل ما لاستصلاح الأرض في السودان، وإعادة الهدوء إلى ربوع الصومال، وإلغاء كل القيود على تبادل الغذاء، وتشجيع الاستثمار العربي في الصناعات الغذائية. إذا فعلنا ذلك سنعبر عتبة التخاذل وسوء إدارة الموارد المتاحة، ونجنب أنفسنا الكثير مما قد يؤلمنا أكثر في السنوات المقبلة.
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق