بقلم : مبارك أردول
أذكر في بداية عام 2003م وأنا خارج من منزلنا في مدينة الدلنج حي التومات في الصباح الباكر قاصداً موقف الأبيض لأستغل أحد باصات أبوعايدة لأعود الي الخرطوم لمواصلة دراستي لأن الجامعة قد فتحت أبوابها ولها أسبوع وقد تأخرت كثيراً، وأتصل علي عدد من زملائي يستفسرون عن سبب تأخري. كنت أستغل عجلة (دراجة هوائية) ماركة فونيكس كوسيلة وحيدة لأغلب أبناء الطبقة التي أنتمي اليها، عندما إقتربت من كبري خور أبوحبل الشهير تذكرت أنني لم ألتقي بالرفيق جوزيف عبدالله سودان (مسئول تنظيمنا في جامعة الدلنج) لأودعه وأقول له بأي بأي، إنني الأن ماشي الخرطوم لأكمال أواخر سنين دراستي ، لم أتردد بعد وصولي الي حي غشلاق الشرطة الشهير ب(البلك) لم أتردد من أن أستدير ميزان العجلة يميناً قاصداً حي المعاصر وبالأحرى مربوع الكنيسة الكاثلوكية بالدلنج حيث يتواجد الرفيق جوزيف ويسكن هناك.
كنت أصطحب معي في العجلة طفل أحد أقربائي يدرس في الإبتدائية وهو في الحسبان عمي ولكنه في عمر أقل مني بكثير، ونسبة لعدم وجود مواصلات في ذلكم الوقت في مدينة الدلنج، أستغليت العجلة لاصل بها الي الموقف وسوف يعود بعدها هذا الطفل بالعجلة الي البيت ممتعاً نفسه بركوب العجلة مسافة طويلة دون إنقطاع، كما كنا نحب ذلك عندما كنا في عمره، هذه العادة يفعلها أغلب سكان المدينة.
المهم بعد عبوري لمصلحة الزراعة الألية متجهاً بالطريق الذي يوصل الي مستشفى الأم بخيتة تململ هذا الطفل وبدء بسؤالي، هل هذا الطريق سيقودنا الي الموقف ؟ قلت له لا، أولاً دعني أن أودع صديقي جوزيف بعدها نواصل وهو متواجد هنا بعدها نعبر بطريق حي أقوز غرب الي شارع أدكو حتى نصل الي الموقف، قال لي ولكن أين يوجد صحبك هذا؟ قلت له هنا، وواصلت في الضغط على بدال العجلة نسبة الي كثيرة الرمال في ذلك الطريق، قال لي هنا وين ؟ قلت له في داخل هذا المبنى ، وانا كنت أجهل مافي بال هذا الطفل ، قال لي ولكن هذه كنيسة! قلت له نعم هو متواجد بها ، قال لي كيف يمكنك أن تدخل هناك ويكون لك صديق فيها؟ قلت له وما المشكلة في الأمر، بدأت أنتبه الي أسئلته هذه المرة، قال لي لقد قال لنا أستاذنا أن لا ناتي الي هذا المكان إنه محل الأنصار (في باله النصارى) وتابع، وإن وجدنا شخص منهم علينا أن (نفقله) نرميه بالحجار، قلت له كيف هذا الكلام إنه سلوك بطال (غير حميد) ولايمكنكم فعل ذلك هؤلاء أناس مثلكم ولهم دين كما لكم دين ولم يخطئوا لكم، أكيد كلام أستاذكم هذا خطأ، في تلك اللحظة توقفت على باب الكنيسة الغربي الفاتح على مستشفى الأم بخيتة، طرقت الباب، خرج الخفير وسلم علي، كيف حالك ي إبني إنشالله خير؟ وفي باله مضايقات الأمن علينا ، قلت له لالا الأمر بخير فقط أريد أن أودع جوزيف واسافر الي الخرطوم ببصات الأبيض الأن ، أرجوك إيقظه لي فقط تبقت نصف ساعة من تحرك الباص، وبعد قليل من مغادرة الخفير ، خرج الرفيق جوزيف مبتسماً كعادته ملتفاً بشال يحميه من البرد ، أول ما بادر بسؤالي يا كمرد؟ لماذا تتعب هذا الطفل بمشوار هذا الصباح وفي هذا البرد ؟ قلت له لم أجد عجلة في بيتنا ووالده يريد أن يذهب الي العمل لذلك أعطاني العجلة وإبنه ليضمن عودته بسرعة .
تبادلنا قليل من الحديث وودعنا بعض وتحركت، في وقت كان يراقب هذا الطفل كل كلامنا وحركاتنا ، قال لي معلقاً صديقك هذا (زول كويس لكن) قلت له والكعب هو أستاذكم!!! كانت هذه لحظة مهمة إستدعتني للنظر لما هو موجود في المنهج الأساسي، والي اليوم، وقد وجدته بالفعل يتناسق مع ما قاله الأستاذ من حيث الإطار والنظرة العامة ولكنه طبعاً زودها حبتين على الموجود في المنهج لعله يتقرب أكثر الي الله كما يظن هو وظن من قبله واضعي المنهج.
لذلك المنهج التربوي الذي يدرس على أولادنا في المدارس الأساسية هو أول منتج ومؤطر للفكر التشددي الذي يرى في الوجود نفسه والكل طالح يجب معاداته وإفناءه من الوجود.
هذا المنهج متطرف يثبت مفاهيم أحادية وأفضلية (superior) لديانة محددة وطائفة معينة، لا يعترف بالتنوع ولا يفرد مساحة للآخر، لايعلم الطفل أن هنالك آخرون يجب عليه إحترامهم وتقديرهم والتعايش معهم، يجعلهم دوماً في حالة إستعدائية وتخوينية لهم، وطريقته تلقينية لا تحرك ولا تنمي في الطفل مهارات التفكير والتأمل والجدل، حتى الأمثال في الرياضيات والحسبان يضربها للتلاميذ في إطار نفس الديانة والثقافة المحددة، بل تجعل الأطفال اليافعين يستقبلون كل الشحنات السالبة والمتطرفة التي وضعها المتشددون بإسم منهج الأساس، ويفرغونها في شكل عبوات ناسفة تقضي عليهم وعلى المجتمع الذي من حولهم، فالمشكلة ليست في الجامعة التي يمتلكها مامون حميدة وليست في الدكتور محمد الجزولي ولا غيرهم، ولكن تكمن المشكلة الحقيقية في المعسكرات المسبقة – مدارسنا التي تعد لهم هؤلاء الجهاديين قبل أن يقوموا هم بوضع لمساتهم النهائية وتفويجهم الي الميادين، أدعوا أي شخص مهتم أن يلقي نظرة الي هذه المناهج التربوية أو الأوراق التي أعدت نقداً لها ليتعرف لماذا ينموا هذا الفكر الأحادي المتطرف بيننا؟ ولماذا مدارسنا لا تخرج علماً نفتخر ونفرح لهم ولكنها تخرج مهوسين إنتحاريين أعداء للمجتمع يفزعون أسرهم ويكلمون أفئدة أباءهم وأمهاتهم.
دبنقا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق