‏إظهار الرسائل ذات التسميات فنون وآداب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فنون وآداب. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

الرسم على الجدران في بلاد السودان

"يلا نلون الخرطوم" هو عنوان مبادرة أطلقها مجموعة من الفنانين التشكيليين الشباب في السودان بالتعاون مع المركز الثقافي الألماني في الخرطوم "معهد غوته"، وذلك بهدف إعطاء العاصمة السودانية طابعًا خاصًا، من خلال الرسم على جدران المباني والمنازل فيها، إذ إن القصد من مبادرة مماثلة، هو نقل فنّ الجداريات إلى الحيّز العام والطرقات الرئيسة في العاصمة. 
وقد ضمّت المبادرة ثلاثون فنانًا تشكيليًا سودانيًا مع ستة فنانين تشكيليين ألمان. ولئن كان دعم المعهد الألماني للمبادرة، قد أوحى أن الرسم على الجدران في المدينة شيء مستورد، فإن تاريخ المكان يقول شيئًا مختلفًا، إذ إن الجداريات تعد فنًا من الفنون القديمة في السودان. حيث تفيد معظم المصادر التاريخية، بأن السودان قد عرفها منذ تسعمائة عام. فقد شهد السودان حضارات قديمة، مثل حضارة نبته وكوش، التي اشتُهرت بالرسم على المباني، وخاصّة رسومات الطيور الراقصة. 

إلا أن مدينة الخرطون اليوم، تفتقد فعلًا لتلك اللمسات الجمالية الفنية التي تخبّر عن ثقافتها العريقة، وما يزيد الأمر حدّة، طغيان الأبراج الزجاجية في مسيرة التطور العمراني والمديني للخرطوم. 

امتدت المبادرة أسبوعين، حيث تناوب الفنانون على رسم الجداريات على عدد من المباني الواقعة على الشوارع الرئيسة في المدينة. ونظرًا إلى الشغف الذي أخرجته المبادرة منهم، فقد عملوا ليل نهار حرفيًا، إذ كان مألوفًا أن يسهر الفنانون ليلًا لإتمام الرسوم. 

ولعلّ الشغف بالفنّ هو ما حرّك لديهم تلك الحماسة، ويضاف إلى هذا أيضًا، رغبة الفنانين بالتواجد في الحيّز العام، وبالخروج بفنّهم إلى الطرقات، بغية إنهاء حال العزلة بين المجتمع والفنانين السودانيين. 

وجاءت الرسومات على المباني متنوعة، فبعضها استوحى من المدرسة السوريالية الغربية الشهيرة، وبعضها الآخر، عاد نحو الجذور، مستلهمًا التراث النوبي. وسواءٌ أكانت الرسومات سوريالية أو نوبية، فإنها خطفت أنظار المارّة، حدّ أنهم راحوا يلتقطون لأنفسهم صورًا بجوارها، باعتبارها شيئًا "جديدًا" في الخرطوم. 
وقالل الفنان التشكيلي عبد المنعم شقليني، أحد المشاركين في المبادرة، لـ"ملحق الثقافة": "شاركتُ في المبادرة لإضافة لون جديد إلى الخرطوم، وإخراجها من القبح الذي هي فيه الآن نحو الجمال الذي كان فيها. علينا تحويلها إلى عاصمة جميلة، بعيدًا من هذا الـ "كلادينغ" (صفائح ألمنيوم تستعمل كواجهات للمباني)، الذي يعدّ دخيلًا على ثقافتنا. فنحن من خلال فنّ الجداريات نقوم بتحديث تراثنا القديم وإحيائه". 

أمّا الفنان التشكيلي غسان البلولة، فقد رأى أن الهدف من المبادرة "إحداث تفاعل بين الشارع والفنانين من جهة، وتبادل الأفكار مع التشكيليين الألمان من جهة أخرى. فضلًا عن خلق مساحة أمل جديد. أعتبر أن في فن الجداريات متنفسًا وإضفاء بصمة خاصة تميّز العاصمة عن عواصم البلدان الأخرى، وتبرز من خلالها ثقافتنا". وفصّل أكثر قائلًا: "نحن في الحقيقة نملك فنًا عريقًا، صامدًا منذ سنين طويلة، والتحدي أمامنا هو مدى التزامنا به، خصوصاً أن هذه المبادرة أوجدت تفاعلًا جيدًا في الشارع السوداني، إذ راح بعض الناس يطلبون منّا أن نرسم على جدران بيوتهم". 

وهذا صحيح، فقد سمح عدد من السودانيين للفنانين الرسم على جدران منازلهم، ولمسوا في الفكرة تغييرًا عما هو مألوف وسائد من طلاء الجدران أو استعمال الزجاج والسيراميك كواجهات للبيوت. 
ويبدو أن الأمر أصاب بعدواه أصحاب الأعمال، وراح بعضهم يطلب الرسم على جدران منشآته. فقد صرّح أحمد يوسف مدير شركة حصاد لـ "ملحق الثقافة" : "أنا سعيد بتحويل جدار المؤسسة إلى رقصة الطيور النوبية، التي تعد لمسة جمالية بألوانها الزاهية وتشكيلتها الهندسية الرائعة". وأضاف "مكن للمبادرة أن تجعل البلاد تأخذ شكلًا جماليًا من تراثها، وأن تصبح مركزًا سياحيًا يقصده السياح. صحيح أن الدارج والسائد اليوم هو الكلادينغ والإسمنت والزجاج، إلا أنه لا يعبّر عن المكان، بينما تعبّر باقتدار الجداريات التي تمثّل حضارة سودانية ضاربة في القدم، بتمازج رائع يخلق عاصمة جميلة". 

وقد تباينت ردود فعل السودانيين حول فنّ الجداريات، إذ رأى بعضهم فيها أشكالًا غير مفهومة، وفضّل عليها الأبراج الزجاجية وتزيين المنازل بالطلاء والسيراميك، بينما تفاعل بعضهم الآخر مع الخطوة باعتبارها أمرًا ثقافيًا قد يميز الخرطوم ويضفي عليها لمسة جمالية. 

ويرى الباحث وأستاذ الثقافة السودانية البروفيسور محمّد المهدي بشرى، أن تجميل وجه العاصمة وإضافة لمسات جمالية تعبر عن الحضارة والثقافة السودانية يجعلها "تعود إلى ثقافة عمرها ثمانية آلاف سنة، منذ الحضارة الكوشية وحضارة كرمة". وذكر أن الخرطوم كعاصمة "مرّت بمراحل تاريخية أنشأت شكلها الحالي"، واعتبر أن في مبادرة "يلا نلون" خطوة تستحق الدعم، باعتبار أن" العودة إلى التاريخ أمر مهم للمحافظة على الشخصية السودانية، لا سيما في العاصمة التي تمثل روح البلد والشعب والثقافة، وتعبّر عن أشكال مختلفة عبر التقاط الرموز التشكيلية والحضارية". وأوضح قائلًا: "هناك رموز من البيئة السودانية وجدت في الجداريات كالعيش "الذرة" والتي تمثل رمز الثقافة. فضلًا عن الأسد الذي ظهر عند الآلهة القديمة". وأكد أن في الخرطوم "مقومات وإمكانات طبيعية، يمكن أن تحولها لمدينة جميلة ونظيفة كما كانت في الثلاثينيات، حيث صنّفت وقتها من أنظف العواصم الإفريقية، وفازت وقتها بعدد من الجوائز وتحدّث عنها الرحالة".
العربي الجديد

السبت، 14 نوفمبر 2015

قناة (النيل الأزرق) ..هل هو افلاس؟


اثناء وجودي في صالة ايتانينا الاثنين الماضي ببورتسودان لحضور حفل الفنان حسين الصادق،تفاجأت بوجود مذيع قناة النيل الازرق محمد عثمان على المسرح يقدم الفنان حسين الصادق للجمهور ويعلن عن ان الحفل سيتم تسجيله وبثه بالقناة عما قريب،وبين الفواصل كانت القناة تقدم مداخلات من هنا وهناك وكلها تصب في اطار الحفل الذي تحاول النيل الازرق ان تبثه كسهرة (مجانية) في استغلال واضح للجمهور الذي دفع مبلغ 50 جنيها لحضور فنانه المفضل وليس له مصلحة في النيل الازرق يظهر عبر شاشتها او تملأ برامجها باي طريقة تريد.
مثار استغرابي هو ان النيل الازرق بها فريق متكامل لاعداد البرامج ومدير برامج فهل كملت الافكار واصبحتم تطاردون الحفلات التجارية بالكاميرات لزوم ملء فراغ الشاشة ام الفهم شنو؟
في مرات سابقة فعلتها النيل الازرق ،وآخرها حفل افراح عصام الذي اعلنت عن مجانيته لكنها هي والقناة استغلا الجمهور وقاما بتصوير الحفل وبثه و دمج فقرات تكريمية من خلاله ولم تعلن افراح على انها تحاول ان تستدرج الجمهور لملء المسرح لتدشين البومها الأول ولم تستأذن النيل الازرق من الحضور في كل المناسبات المشابهة سواء أكان هنا ام في حفلات الامارات التي كانت برعاية شركات فنية. وعملت القناة على تصوير المغتربين وفي بعض احيان لا يعلم الحضور بان الحفل سيتم بثه كسهرة مما يجلب لهم حرجا مع ذويهم .
لا اعتقد ان مذيعا يعتبر من اميز الموجودين في الساحة كمحمد عثمان يباري ليه فنان لتسجيل حفل تجاري من هنا لبورتسودان، و قد علمت ان بعضا من الحضور لاسباب اجتماعية راسخة في الشرق امتعض من تصوير الحفل وبثه كسهرة، و كون ان النيل الازرق تبعث افضل كوادرها لتسجيل حفل تجاري وتحويله الى سهرة فان الامر يحتاج لمراجعة خططها البرامجية.
مسألة التصوير دون إذن وسابق انذار اعتقد انها تدخل ضمن القوانين المنظمة للعمل الاعلامي ولا استبعد ان تجد القنوات التي تفعل مثل هذا الفعل نفسها يوما امام مساءلة قانونية والمطالبة بتعويض قد يجفف الخزائن ،ولا اعتقد ان حسين الصادق غير متاح للقناة للدرجة التي تبعث كاميراتها ومذيعها خلفه حتى بورتسودان ؟ فما الجديد الذي يستدعي كل هذا الجهد لتصوير حفل بطريقة(مجانية)، وان كانت القناة لم تستفد من تجربتها الفاشلة سابقا في برنامج (افراح افراح) الذي تم ايقافه بعد ان ادخل القناة في (حتت ضيقة) فعليها ان تتوقع مزيدا من الاشكالات من خلال سعيها لملء شاشتها بسهرات (مجانية) ومساككة الحفلات العامة وتسجيلها دون إذن الحضور الذين من حقهم ان يتمتعوا بالاغنيات بدون تحاشي كاميرات التصوير.

حسام الدين ميرغني
الراي العام

الجمعة، 13 نوفمبر 2015

أنباء عن اعتزال الفنان محمد ميرغني الغناء


كشف مصدر مطلع لـ(الرأي العام) عن اعتزال الفنان محمد ميرغني الغناء، وقال المصدر إن الفنان محمد ميرغني يفكر بصورة جادة في اعتزال الغناء، وأضاف” إن وفاة زوجته التي حدثت مطلع الأسبوع هي السبب وراء تفكير ميرغني في اعتزال الغناء”.
 الرأي العام

الخميس، 12 نوفمبر 2015

عاد لها بعد غيبة: طه سليمان يقدم(قنبلة) في معرض الزهور


وسط حضور كبير من معجبي الفنان طه سليمان ورواد معرض زهور الخريف في نسخته الثالثة والعشرين قدم الفنان السلطان حفلا جماهيريا متميزا غنى فيه أكثر من (30) أغنية في امسية كان عنوانها الطرب الأصيل،
بدأها طه باغنية (أنا عايز أعيش) مرورا باغنية (ممنوع من السكر)، وبطلب من الجمهور غنى أغنية (قنبلة) بعد ان اقلع عن ترديدها لفترة طويلة من الزمن ووجدت الاعمال التي غناها طه تجاوبا كبيرا من قبل الجماهير التي خرجت وعلامة الفرح والسرور تملأ وجوهها،
وعبر طه عن سعادته بالمشاركة في معرض الزهور، وقال” إن المعرض فرصة طيبة لزراعة الزهور والمشاتل في ربوع الوطن الحبيب” مشيراً الى دورهم كفنانين لزراعة الفرح في نفوس جمهورهم. وطالب الجمهور ادارة المعرض بضرورة أن يكون هنالك يوم آخر يغني فيه سلطان الطرب.
الخرطوم: علاء موسى

الروائي حمور زيادة: “أتمنى أن تقوم ثورة في السودان حتى إذا كان ثمنها غاليا”


يتحدث الروائي السوداني حمور زيادة، صاحب جائزة نجيب محفوظ للأدب 2014، في هذا الحوار عن المشهد الروائي العربي وتجربة السودان المتواضعة فيه بسبب ما يسميه “النظام الاستبدادي”. ويتساءل صاحب “شوق الدرويش” إن كان العالم مستعدا أن يتقبل نقد الأدباء العرب لمشاكلهم الحديثة أم أنه ما يزال يبحث كتابات من نسق ألف ليلة وليلة.


روايتك “شوق الدرويش” منحتك جائزة نجيب محفوظ 2014، وقادتك لدخول مسابقة “بوكر” المرموقة. كما اعتبرك الكثير من النقاد العرب بعدها علامة بارزة في تاريخ الأدب السوداني. ما تعليقك على ذلك؟
رأي النقاد رأي أقدره ويسعدني كثيرا. أما الفوز بجائزة نجيب محفوظ، والتي كانت الأولى بالنسبة إلي، فكانت دفعة كبيرة لمشروعي الروائي ونقلتني نقلة كبيرة من مجرد شخص وروائي بسيط إلى كاتب معروف له مكانة في المشهد الأدبي العربي، خارج حدود مصر التي أعيش فيها منذ خمس سنوات، وخارج بلادي، السودان. الجائزة كسرت هذا الطوق وقدمتني حتى للقراء الناطقين باللغة الإنكليزية بعدما ترجمت أعمالي إليها.



كيف تقيم المشهد الثقافي الروائي السوداني بصفة خاصة والعربي عموما؟
لا يمكن تقييم المشهد العربي كحالة واحدة وبشكل موحد لأن هنالك تفاوتات كبيرة من بلد لآخر. بالنسبة للسودان فإنه يواجه صعوبات كبيرة جدا. أعتقد أن المبدعين لديهم قدرات لكنها مكبوتة ولا تزال عاجزة بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية التي يعيشونها، من وضع الحريات وصناعة الثقافة شبه المنعدمة، فهم يحسبون أن الانخراط في مشروع ثقافي كتابي هو عمل خاسر في جميع الأحوال.

هنالك رقابة شديدة عليهم، حتى في معرض الكتاب اليتيم الذي تقيمه السلطات السودانية. فالسلطة تحاكم حتى العارضين الأجانب الذين يدخلون إلى السودان بالسجن على كتب وافقت مسبقا بإدخالها.
وهناك حادثة شهيرة، عندما تم الحكم على عارضي مكتبة “مدبولي” المصرية الشهيرة لأنهم أدخلوا كتابا صرح لهم بإدخاله، ليعاقبون بعدها بالحبس ستة أشهر.


هل تتوقع أن يكون مصير النظام السوداني كمصير الأنظمة الديكتاتورية العربية التي أسقطها “الربيع العربي”؟
للثورة ظروفها وشروطها الموضوعية والذاتية، لكني أتمنى أن تقوم ثورة في السودان حتى إذا كان ثمنها غاليا، لأن استمرار النظام الاستبدادي أسوء من كلفة الثورات.

المؤكد أن الوضع في السودان سيء جدا، لكني أجهل تماما هل ستقوم هذه الثورة ومتى ستقوم.


ما مدى تأثير هذه الثورات على نتاج الأدباء العرب؟
لا أنظر إلى ما ينتجه المبدعون العرب على أنه تعبير عن صورة الربيع العربي ولكن أعتبر أن ثورات الربيع العربي هي التي تعبر عن إنتاج المبدعين، لأن المبدعين نادوا بالحريات وتحدثوا عن الحقوق قبل هذه الثورات، فهي نتاج ما ظل هؤلاء المبدعين يكتبونه منذ عشرات السنين.

أما نتاج الربيع العربي حتى الآن فهو غير واضح لأننا لا زلنا في مرحلة الاضطرابات التي تلي الثورات ولا توجد ثورة تحسم الأمر منذ الضربة الواحدة. فالثورة ليست انقلابا عسكريا، بل هي انفجار يتم ترتيبه وجمعه في مشروع وطني واحد موحد يدفع بالناس إلى الأمام ويحتاج إلى وقت طويل جدا.
فتعبير المبدعين عن هذه الثورات غير مرتبط بالربيع العربي بقدر ما هو مرتبط بحالة الفوضى التي تسود المجتمع. الأدباء السوريون مثلا يعبرون عن واقع الفوضى لا عن الثورة نفسها، أما فعل الثورة فهو الذي أتى نتاجا لكتاباتهم الطويلة منذ عشرات السنين مطالبين بالحرية.


إلى أي مدى تمكن الأدب العربي من فرض وجوده عالميا؟
اللغة العربية لا تزال لغة محلية رغم أن 22 دولة تتحدث بها. التقيت كاتبا بريطانيا قبل أيام، وإلى جانبي كاتب مصري وتبادلنا الحديث قليلا وسأل عن كتبنا وتفاجأ أننا نكتب باللغة العربية وأعتقد أنه لو لم يكن مهذبا لقال لنا هل من أديب يكتب بهذه اللغة اليوم؟ فالعالم يتطلع إلى الأدب بلغات مختلفة، ونحن نكتب لبعضنا البعض.

وما يجعلنا نكسر هذا الطوق هي الترجمة، بحيث أعتقد أنها صارت متاحة بشكل كبير لأن العالم يمكنه الإطلاع الآن على كتاباتنا. لكن ربما التساؤل الوحيد هو هل هذا العالم يتوقع أن يقرأ من هذه المنطقة العربية كتابات بشكل معين، أي كتابات عن المرأة والجنس والليالي الشرقية… وهل هو مستعد أن يتقبل النقد الحديث لمشاكلنا أم أنه ما يزال يبحث كتابات من نسق ألف ليلة وليلة؟
France 24

الأربعاء، 11 نوفمبر 2015

روسيا تطبع اكثر من مليون نسخة من رواية “موسم الهجرة للشمال” للروائي العالمي الطيب صالح


أجرت فضائية روسيا اليوم لقاءً مع مترجم رواية موسم الهجرة للشمال للغة الروسية .. فلادمير شاغال أكد انهم طبعوا في العام 1977 الطبعة الأولي من مائة ألف نسخة ثم نفدت من الأسواق ..الطبعة الثانية كانت مائة ألف أخرى، اما الطبعة الثالثة فكانت تسعمائة ألف نسخة ..
فلادمير أثنى على الرواية، وأكد أنها قدمت الثقافة العربية للمجتمع الروسي بشكل مبسط وعميق في ذات الوقت. رواية موسم الهجرة للشمال إحدى أبرز روايات السوداني “الطيب صالح” وترجمت لعشرات اللغات.
اخر لحظة

السبت، 7 نوفمبر 2015

الشاب خالد يثير غضب المغاربة.. ويُرشق بالحجارة في حفله الأخير


تعرض الفنان الجزائري الشاب خالد لموقف لا يحسد عليه، وذلك خلال إحيائه حفل بمنطقة “تندوف” بحضور مسؤولين من جبهة البوليساريو، والتي تطالب بانفصال الصحراء عن المغرب.
وبمجرد الإعلان عن إحياء الشاب خالد لحفل بهذه المنطقة، ثارت موجة هجوم عارمة من قبل النشطاء المغاربة ضده، خاصة أنه أقام فترة طويلة مع عائلته في المغرب، هذا بالإضافة إلى حصوله على الجنسية المغربية سنة 2013.
كما أن توقيت الحفل زاد من حدة غضب المغاربة، حيث أن الحفل أقيم قبل 3 أيام من احتفال الشعب المغربي بالذكرى الأربعين لاسترجاع الأقاليم الصحراوية بفضل المسيرة الخضراء التي قام بها سنة 1975.
إلا أن ما حدث في الحفل، كشف عن عدم ترحيب المقيمين في مخيمات “تندوف” بالشاب خالد أيضا، حيث قاموا برشقه بالحجارة، مما اضطره إلى الانسحاب مع أول أغنية.
القدس العربي

حمد الريح: ما كنت أتخيل أن (تجوط المسألة) بهذه الطريقة لدرجة أي شخص يريد أن يصبح فناناً


ظل الفنان حمد الريح يشكل حضوراً طيباً في الكثير من المناسبات الرسمية والشعبية ولكن غيابه كان واضحاً من مسرح الأحداث الفنية الساخنة. الفنان الكبير التقته (آخر لحظة) في حوار الفن والسياسة والرياضة والذكريات، طرحت عليه حزمة من الأسئلة أجاب عليها بحضوره الأنيق وانفعالاته (جواباً وقراراً) حسب درجة السؤال، كان واضحاً وجريئاً كعادته وساخراً في أحيان كثيرة.. معاً نتابع ما قاله رئيس اتحاد الفنانين الأسبق:

٭ لماذا كل هذا الغياب في الفترة الأخيرة؟
– ظروف المرض هي التي حرمتني عن الظهور في الفترة الأخيرة وسافرت مؤخراً للاستشفاء في الرياض، وربما أغادر لها مرة أخرى في الأيام القادمة لمعاودة الطبيب، ولكن مع ذلك لم أغب عن الكثير من المناسبات.

٭ ولكنك سجلت غياباً تاماً عن الجمعية العمومية لاتحاد المهن الموسيقية؟
– لم أتابع أخبار الجمعية، لا من قريب ولا بعيد، ولم يخبرني بها أحد، وكما قلت لك ظروف المرض لم تتح لي متابعة كل الشأن الفني.

٭ ماذا تقول في الحوار الوطني الذي يجري هذه الأيام بالخرطوم؟
– أنا من أكثر المتفائلين بالحوار الوطني،لأن المشاركة ضمت كافة أطياف الشعب السوداني ولم تقف عند حد السياسيين، ولكن يجب أن يؤمن كل طرف بالآخر وألا يضع المتحاورون خطوطاً حمراء بينهم، وأن تقدم الأطراف مجتمعة بعض التنازلات من أجل أن يعود ذلك بالمصلحة للسودان.

٭ من وجهة نظرك لماذا دائماً تفشل مجالس الاتحاد؟
– هي لا تفشل بمعنى الفشل ولكن أغلب الفنانين لا يتفاعلون مع قضايا الاتحاد ويتهربون من دفع اشتراكاتهم وهذ يضعف الاتحاد مادياً وبالتالي لا يستطيع أن يقدم الكثير من المشاريع ولا حتى البرامج.

٭ وفترة رئاستك للاتحاد كيف تراها؟
– ليس أنا الذي أراها، ولكن اسألوا غيري.. كيف رأوها.. أنا راضٍ عنها وهي من وجهة نظري ناجحة جداً ويكفيني أنني عملت في مجالس الاتحاد أكثر من عشر سنوات حتى وصلت لمنصب الرئيس لعدة سنوات.
٭ ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في رئيس الاتحاد.. أم أن أي فنان يمكن أن يصبح رئيساً؟
– لا بد في الفنان الذي يرغب في أن يكون رئيساً لاتحاد الفنانين أن يكون محبوباً من الجميع وصاحب فكر وشخصية قوية ومؤمن بقضايا الفن.
٭ ماذا تقول في المجلس الجديد الذي جاء بالانتخاب لاتحاد المهن الموسيقية؟
– المجلس جديد ومن الصعب أن نحكم عليه، يجب أن يعطى فرصته، خاصة وأن له أعمالاً في الدورة السابقة يريد إكمالها، وأن المسؤولية التي على عاتقه ليست بالسهلة، وهذه فرصة أقول فيها للإخوة في اتحاد الفنانين حديثاً سبق أن قلته.. الفن مستهدف ولا بد من توحيد الجهود حتى نستطيع جميعاً أن نؤدي الرسالة.

٭ أستاذ حمد كيف ترى الساحة الفنية الآن؟
– الساحة (حالها يغني سؤالها)، وحقيقة ما كنت أتخيل أن (تجوط المسألة) بهذه الطريقة لدرجة أن أي شخص يريد أن يصبح فناناً.

٭ ومسؤولية من الذي يحدث؟
– مسؤولية جهات كثيرة، مجلس المهن الموسيقية ومجلس المصنفات واتحاد الفنانين والمجتمع.

٭ مجلس نقابة المهن الموسيقية والمسرحية قام بخطوة عملية وفتح بلاغات ضد الممارسين للمهنة دون الحصول على الرخصة؟
– بالتأكيد هي خطوة مهمة نحو ضبط الساحة الفنية، لأن الغناء أصبح مهنة لا مهنة له، وكثيرون دخلوا هذا الوسط دون أن يمتلكوا الموهبة أو لهم صلة بالغناء، وهذه الخطوة يجب أن تتبعها خطوات أخرى حتى تنضبط الساحة.

٭ لكن البعض يرى أن ذلك حرب على الفنانين الشباب بعد سحبهم البساط من تحت أقدام الكبار وكان يمكن أن تسبق هذه الخطوة لقاءات تنويرية لتوضيح ما يأتي بعد ذلك من خطوات؟
– أولاً.. لا يستطيع أحد أن يسحب البساط من تحت أقدام الفنانين الكبار لأن ما قدموه أصبح راسخاً في وجدان هذا الشعب وهو عطاء فني حقيقي وإرث سيظل خالداً لأجيال وأجيال، وما قام به الإخوة في مجلس النقابة ليس حرباً ومن يقولون ذلك يريدون الفوضى للساحة ويشجعون الشباب على ممارساتهم الفنية الخاطئة، بدلاً من أن يحثونهم على تطوير موهبتهم وتقديم أنفسهم للناس بكل الجدية وليس بالاعتماد على غناء الآخرين أو الغناء الهابط.

٭ ما رأيك في الأصوات الشبابية التي ظهرت مؤخراً بصورة جادة؟
– معظمهم أصحاب أصوات جيدة ويبشرون بمستقبل طيب للأغنية السودانية، فقط عليهم عدم الاستعجال.

٭ كيف يختار حمد الريح أغنياته؟
– أختار أغنياتي من الكلمات التي أحس أنها تلامس وجدان الناس، وما لا يعرفه كثيرون أنني عملت موظفاً في جامعة الخرطوم وتحديداً في مكتبتها لسنوات طويلة، وهذا أتاح لي الوصول إلى أغنيات كبيرة.

٭ مثل ماذا؟
– أغنية (اسكني يا جراح واسكتي يا شجون).

٭ هل تذكر أول أغنية قدمتها؟
– وهل يمكن أن أنسى ذلك.. هي أغنية يا مريا من كلمات الشاعر صلاح أحمد إبراهيم وألحاني.

٭ وما هو الجديد من أغنيات؟
– أرتب لتقديم أغنية وطنية جديدة من كلمات الشاعر التيجاني حاج موسى.

٭ هل تتابع أخبار الرياضة؟
– أتابعها باهتمام شديد.. وليس غريباً عليَ ذلك.. فقد كنت لاعب كرة قدم في فترة ما.

٭ حدثنا عن هذه الفترة؟
– كنت منذ صغري مولعاً بكرة القدم ومارستها في روابط الناشئين بتوتي وواصلت حتى الفريق الأول بتوتي ومنه انتقلت لفريق المريخ ومنه تم اختياري للعب في الفريق القومي (هكذا كان اسمه في السابق).

٭ وماذا كانت وظيفتك داخل الملعب؟
– كنت ألعب مهاجماً وكنت أتمتع بسرعة فائقة وقد زاملت فترة العصر الذهبي، حيث كان بالمريخ كمال عبد الوهاب وبالهلال جكسا وحتى بعد أن تركت اللعب أصبحت رئيساً لنادي توتي وعضواً في مجلس الشورى المريخي.

٭ ماذا بقي في ذاكرتك من الرياضة؟
– الرياضة ذكرياتها كثيرة، ولن أنسى الهدف الذي سجلته في فريق الهلال وأنا لاعب بالمريخ، بعد أن استفزني أحد صحفيي الهلال في (عموده) وكتب قائلاً هل هان الهلال لدرجة أن يحرز حمد الريح هدفاً في شباكه.. وكنت قبلها قد قلت لبعض زملائي في تمرين قبل المباراة إنني سأحرز هدفاً.

٭ ماذا تقول في الأزمة الرياضية الناشبة هذه الأيام وانسحاب الهلال من الدوري؟
– أسمع بعض الأخبار ولست ملماً بها كلها، ولكن القانون هو الفيصل في مثل هذه الأزمات، ونصيحتي للاتحاد العام والأندية أن تحتكم للقانون.

٭ هل تهتم بالرياضة العالمية وتتابع دورياتها؟
– «ما خالص» لكني أشجع ريال مدريد.

٭ أستاذ حمد.. ماذا تقول في ختام هذا اللقاء؟
– شكري وتقديري لصحيفة (آخر لحظة) التي تجد مني المتابعة وكل الاحترام.. وسعيد أن أطل عبرها بعد غياب.. شكراً لكم.
حوار: معاوية محمد علي : أخر لحظة

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

سؤال التاريخ في «شوق الدراويش»

د. مدى الفاتح

قرأت رواية «شوق الدراويش» للكاتب السوداني حمور زيادة وهو العمل الحائز جائزة نجيب محفوظ الأدبية متأثراً كغيري بالجدل الذي صاحبها والذي تعلق بسؤال التاريخ أكثر مما تعلق بسؤال الأدب والإبداع. 
هو لم يكن جدلاً في الواقع، خاصة عند المثقفين السودانيين، بقدر ما كان اتهاماً للكاتب بتشويه تاريخ البطولة السوداني المتمثل في الثورة والدولة المهدية، عبر تقديمها في سياق أشار في أكثر من موضع لجورها وظلمها، مذكراً بتجارب حديثة لاستغلال المقدس الديني وسيلة لإخضاع الشعوب وقمع المعارضين. ذلك الجدل الذي حاكم الرواية كما تحاكم مراجع التاريخ، جعل القراء يستقبلونها بذهن مشوش وصنع حاجزاً نفسياً بينهم وبين التمتع بالعملية السردية التي كانت موفقة لحد كبير ومحتفظة بقدر عالٍ من التشويق.
هل كان الكاتب يهدف فعلاً لتشويه تلك الفترة التاريخية؟ أم أنه لم يستخدم التاريخ إلا كأسطورة نسج حولها تفاصيل صغيرة وقصصاً مختلفة شكلت بدورها الرواية التي بين أيدينا؟
للإجابة على هذا السؤال نذكر بحقيقة أنه لا توجد جائزة أدبية مستقلة أو مترفعة عن الواقع السياسي، وهو ما ينطبق ليس فقط على جوائز العالم الثالث الصغيرة في الآداب والفنون، ولكن أيضاً على الجوائز العالمية كنوبل والأوسكار وغيرهما، وإذا اتفقنا على ذلك فلن يبقى علينا إلا أن نتذكر مكان وزمان تلك الجائزة التي بمنحها تم تسليط الضوء على هذه الرواية دون غيرها وعلى هذا الكاتب دون سواه.
مكان الجائزة هو مصر وزمانها هو في العام الماضي. بهذه الحقيقة لن نحتاج لكثير من التحليل لنربط بين عداء السلطة ومثقفيها لكل التجارب والتيارات الإسلامية، والتفات هذه الجائزة لكاتب سوداني مغمور لم يختلف عن غيره من الروائيين إلا بطرحه لقصة في بناء تاريخي حساس، يسهل إسقاطه على الحاضر والمستقبل.
الرواية التي أسهبت في الحديث عن الظلم والقهر والفوضوية، التي نشرتها الدولة المهدية باسم الدين، لاقت رواجاً وحماساً منقطعي النظير من اللجنة ومن أصحاب النقد السياسي للأدب، الذين لا يعبرون عن رأي أدبي بقدر ما يعبرون عن موقف سياسي، ولا يحاكمون النص بقدر ما يتعاطفون مع الفكرة خلف النصوص وهو الشيء الذي لا يخدم بكل تأكيد العمل الإبداعي.
الاستغلال السياسي للأدب والفنون ظاهرة متمددة في الزمان والمكان مثالها الأوضح قد يكون ما راج إبان الاتحاد السوفييتي من تعريف للأدب الجيد بأنه الأدب الملتزم بالواقعية الاشتراكية. لكن كل ذلك لا يصلح مبرراً للتقليل من شأن الجائزة الكبيرة أو الرواية، وإن كان يجبرنا على العودة إلى السؤال الأول: هل زور (زيادة) التاريخ فعلاً وتعمد تشويه صورة المهدي وخليفته؟ لكي نتحدث بموضوعية عن تزوير التاريخ فإنه يجب أن يكون لدينا تاريخ رسمي معترف به ومجمع عليه، وهو ما لا يوجد للأسف. نحن لدينا روايات مختلفة ومتفاوتة ومتناقضة باتجاه متطرف يهدف إلى تعظيم وتقديس المهدي ورجاله، أو باتجاه متطرف آخر يهدف إلى احتقارهم والمبالغة في وصفهم بكل قبيح، كما فعل أعداء المهدي والحاقدون على دعوته في الماضي والحاضر.
هل الرواية امتداد أو إضافة لتلك «المرويات» التاريخية؟ الكاتب، بحسب اطلاعي، لم يزعم أنه بصدد كتابة مؤلف في التاريخ وإن كان، لتجويد عمله، قد عاد إلى بعض المراجع بلا شك، وطالما كان الأمر كذلك فإنه يجب الا نحمل الأمور أكثر مما تستحق. المشكلة أنه حتى لو لم يدّع الكاتب أنه مؤرخ او باحث في التاريخ، إلا أن روايته سوف تحرض بلا شك الكثيرين على إعادة التنقيب في تراث المهدية والتأكد من حقيقة ما حدث في تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر والسودان، بل تاريخ المنطقة. هذا البحث تكتنفه مصاعب عدة، فمن ناحية هناك مشكلة قلة المراجع الموثوقة وغير المتحيزة أو انعدامها، ومن ناحية أخرى هناك الأسرة المهدية التي تمددت من خلال أنصار المهدي متحولة إلى طائفة اجتماعية مهمة قبل أن يصبح لها وزن سياسي لا يمكن تجاهله. هؤلاء لن يسعدهم بكل تأكيد أن يعامل الإمام كأي قائد سياسي أو أي زعامة عادية فتنتقد وتراجع أخطاؤه في إدارة الحكم والدولة، ناهيك عن مراجعة أخطائه العقدية أو طرح السؤال المتجدد عما إذا كان فعلاً مهدياً أم «متمهدياً». في ذلك كله تناقض بلا شك حيث يرى هؤلاء أن المهدي شخصية تمثل كل السودانيين ولا تخص أنصاره أو الحزب الذي تفرع عنهم فقط. هم يرون فيه الشخص الذي وحد كل السودان (أنا شخصياً لا أفهم المقصود بالتوحيد هنا..!)، لكن رغم كل شيء فهم يرون في الوقت ذاته أن مناقشة تفاصيل حياته وحكمه، كما تفاصيل حياة تلاميذه وقادته هو «تابو» يمنع التنقيب فيه ويجب الرضا بالرواية الرسمية التي تقوم الأسرة بتوزيعها أو تحديثها والتي تعتمد في الغالب على منقولات شفاهية.
الغريب أنه في هذا الجو المشحون بالتابوهات والمسكوت عنه، يسمح أحد أهم نجوم العائلة في الوقت الحاضر، وهو إمام الأنصار (الصادق المهدي) لنفسه بانتقاد مشروع المهدي، حيث يعترف في كتبه ومحاضراته بتشدد جده، لكنه يبرر لذلك باختلاف الوقت والمكان والحاجة إلى ذلك التشدد في ذلك الوقت. المفارقة هنا أن الأسرة ثم الحزب السياسي الذي انبثق عنها ليكون أحد أهم الأحزاب السياسية في السودان، تلك الأسرة التي استفادت الكثير بنسبتها إلى بيت المهدي، أصبحت تملك مشروعاً متناقضاً تماماً مع مشروع الجد المؤسس الذي كانت أهم بنوده هي الزهد وتطبيق الشريعة (على طريقته) والعمل على نشر الجهاد وفتح البلدان.
هكذا يكون الأحفاد قد استغلوا بشكل ما الفكرة المهدية وما ترتب عليها من منافع تقديسية واقتصادية، من أجل بناء مشروع جديد يقوم على فصل الدين عن السياسة وفصل المقدس عن الدنيوي، وهو ما اعتبره منظرو اليسار السودانيين (منصور خالد نموذجاً) نقطة إيجابية في شخصية إمام الأنصار الصادق المهدي.
هذه الرواية والنقاش الذي يصاحبها يمثل إحراجاً بالتأكيد للمهديين الجدد، ويذكر بأن كل مجدهم الحالي إنما بني على ذلك الميراث القديم، وأنه لولا إيمان بسطاء الناس واصطفاف الدراويش خلف المهدي من أجل الراية التي كان يرفعها، ليس فقط لرفع الظلم عنهم، ولكن أيضاً للموت في سبيل نشر الإسلام، لولا كل ذلك لما توحد الآلاف خلف رايته ولما منحوه بطيب نفس كل ما يمتلكون على قلته واحتياجهم. لولا ذلك لكان الإمام الذي أصبح جزءاً مهماً من تاريخنا مجرد متصوف أو على الأكثر صاحب طريقة ومريدين.
الواقع إذن كالتالي: الباحثون من غير السودانيين الذين سوف يتحدثون عن تلك الفترة غير مرحب بهم لافتراض أنهم غير موضوعيين وحانقين على المهدية، في حين يقتصر الأمر داخل السودان على المهديين أو المقربين منهم، فهم وحدهم من يملك حق مناقشة أو انتقاد أو حتى رفض المشروع المهدي من أساسه. في هذا الجو نفهم أهمية الحجر الذي تم إلقاؤه روائياً في تلك البركة الراكدة، كما نستطيع أن نتفهم ذلك الاستقبال المتشكك الذي صاحب إعلان الجائزة.
والآن، هل حان الوقت لنسيان كل تلك المناقشات «غير الأدبية» والاكتفاء بتهنئة الكاتب على الجائزة المهمة التي وضعت اسمه جنباً إلى جنب مع كتاب كأحلام مستغانمي وإدوارد الخراط ويوسف إدريس وغيرهم؟

٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
القدس العربي

هدد باللجوء للقضاء..مصطفى مضوي يمنع احمد وحسين من ترديد أعماله


اعلن الفنان مصطفى مضوي عن منعه الفنان احمد الصادق وشقيقه حسين الصادق من ترديد اعماله الفنية، وقال” مضوي لـ(الرأي العام) أمس أنه اقدم على تلك الخطوة بعد أن وجد الشقيقين يتماديان في ترديد بعض اعماله دون الرجوع اليه أو استئذانه، وأضاف ان أحمد الصادق تغنى بعدد من أعماله دون الرجوع اليه وقام مؤخرا بتسجيل اغنية (خبر الصورة) بطريقة شائهة افسدت الاغنية وذلك باستبدال لحنها بلحن آخر موضحا انه حاول الوصول الى أحمد بالاتصال على مدير أعماله إلا أنه لم يستجب له ورفض الرد على اتصالاته الشيء الذي استفزاه بشدة، وشرع فورا باصدار قرار منع وفق اجراءات قانونية بصورة عاجلة، ووجه انذارا شديد اللهجة إلى أحمد وحسين مطالباً اياهما بضرورة الإبتعاد عن ترديد اعماله حتى لا يضطر للذهاب للمحكمة ويطالبهما بتعويض مالي جراء الإعتداء على أعماله، كما فعل من قبل عندما رفع دعوى مشتركة مع شاعر الاغنية عباس مصطفى، ودونا بلاغا في محكمة الملكية الفكرية ضد الفنان الشاب أحمد وطالباه بدفع بمبلغ (200) ألف جنيه وذلك بعد تعديه على اعمالهما دون اذن منهما وكلف محاميا لمتابعة القضية وتسلم المحامي الأوراق الخاصة بالقضية .
صحيفة الرأي العام 

السبت، 3 أكتوبر 2015

خريستو يرثي الخرطوم الجميلة

طارق الشيخ
مرّ الحديث، في مكالمة هاتفية مع صديق طبيب في السودان، على العراق، وأصدقاء منه منذ سنوات الدراسة، وكيف أن بعضهم، ممن منحهم الله القوة والصحة، يشاركون، هذه الأيام وبهمة الشباب، في تظاهرات الاحتجاج في بلدهم ضد الفساد. قلنا إنه أزكم الأنوف هناك، لكنه لا يرقى، وبالتوثيق، إلى مرتبة الفساد السوداني، فالعراق أفضل درجة، وفقاً لتقارير منظمة الشفافية الدولية.
في مكتبته التي كانت منارة للمعرفة في الخرطوم، التقيت صاحبها اليوناني خريستو. اشتكى من أن الناس التي تقرأ غادرت السودان في معظمها، ومن بقي انشغل بتفاصيل الحياة اليومية وتعقيداتها. يقول إن الناس لم تعد تقرأ، ومن النادر أن يقصد المكتبة شخص لشراء كتاب، إما لغلاء الكتب، أو لمشاغل الحياة التي جعلت من القراءة ترفاً ليس متاحا للغالبية من أبناء السودان.
                                                                                                                                                              كانت أرفف هذه المكتبة تغطيها الكتب والمراجع العلمية الثمينة من مختلف دور النشر الغربية، أما اليوم، فقد غاب ألقها القديم، وتدثّرت بطبقة من الغبار الناعم، وأصبح من الصعب حتى قراءة العناوين. ينسجم مبنى المكتبة، بطرازه المعماري الإنجليزي الأنيق، مع شكل المباني العتيقة حوله، من فندق فيكتوريا الذي استمد اسمه من ملكة بريطانيا، والمطل على شارع القصر وسط الخرطوم، على مقربةٍ منه فندق أكروبول، اليوناني الذي كان مفضلاً للصحفيين والمراسلين الأجانب، أصبح كما حال المكتبة.
ومنذ المرة الأولى التي دخلت فيها المكتبة، أسرتني بإنارتها الهادئة وبصمتها، مع وجود زبائن من محبي الكتب بين ممراتها. لم تكن "الخرطوم بوكشوب" مثل كل المكتبات في السوق الإفرنجي، كما كان يسمى. كانت تضاهي مكتبات عالمية، فالكتب الأكثر مبيعاً من دور النشر العالمية آنذاك تجدها ساخنة في موعد صدورها عالمياً. الهدوء يملأ المكان. رائحة البيتفور تنبعث من الركن الهادئ داخل المكتبة، حيث تباع أنواع من البسكويت والحلويات الإنجليزية الفاخرة. قلت لخريستو: هذه المكتبة شكلت الوعي لدى شرائح واسعة من السودانيين. كانت، في تعاونها مع وزارة التربية والتعليم، توزع المقررات المدرسية من الكتب الإنجليزية. قال: كان هذا في زمن جميل. وأضاف: كانت الخرطوم أجمل مدن إفريقيا. في الخامسة عصراً،
كان فندق فيكتوريا المجاور يكمل استعداده لاستقبال زبائنه من كبار الموظفين الذين اعتادوا شرب شاي المغرب على الطريقة الإنجليزية في الساحة أمامه. أناقة المكان، وتهيؤ العاصمة كلها للمساء، أوحيا لبيوت الموضة، آنذاك، أن تنتج أثواباً نسائية راقية، حملت اسم "الخرطوم في الليل". ثياب باللون الأزرق، أو الأسود، تتناثر فيها حبيبات بيضاء لها وميض، تحاكي أنوار الخرطوم في الليل.
يتذكّر خريستو حال الخرطوم وسينما كولوزيوم القريبة من المكتبة في شارع القصر. كانت الذكريات تنسل ساخنة من أعماق ذاكرةٍ، باتت تفقد كثيراً من بريقها، بفعل السنوات. قال: كان يوماً لا يُنسى أفتخر فيه، لأنه سوداني ويوناني. هنا عُرض، لأول مرة في الشرق الأوسط، وتزامناً مع العواصم الأوروبية الكبرى، فيلم زد، وبحضورٍ فريد، مؤلف قصة الفيلم نيكولاس كازانتزاكيس، ومؤلف موسيقاه، الموسيقار الشهير، ميكيس ثيودراكيس، كانا حاضريْن، وأيضاً الممثلة والشخصية الثقافية اليونانية، ماريا كالاس، والتي أصبحت، لاحقاً، وزيرة للثقافة في بلدها.
من هذه المكتبة، كان مثقفون كثيرون من السودان يضعون لبنات ثقافة موسوعية منفتحة تقدمية. يحكي لي العم خريستو أنه، حينما يتحدث لأبنائه في اليونان، يسألونه بحنينٍ دافق لم يفقد طراوته عن الخرطوم التي كانت، والتي لم يتبق لهم منها سوى ذكريات رائعة، فيغلبه البكاء. بخيبة أملٍ وأسى، يقول لهم: الخرطوم لم تعد على حالها، يلحون عليه بالسفر إلى اليونان، فيردّ، بحزم، إن جذوره عميقة في الخرطوم.
ختمنا حديثنا بأمنية خريستو: أتمنى أن أموت هنا، وأن يُذرّى رمادي يوم أموت على نهر النيل. هنا ولدت على هذه الأرض الطيبة، وهنا، أتمنى أن تستقر روحي. خرجت، وعلى الرغم من عتمة المكان واختلافه، بذكرياتٍ جميلة، فيوم كانت الخرطوم جميلة ومحتفية بأهلها ومتسامحة، كان دوري كرة السلة يضم، في درجته الممتازة، أندية اليوناني والكاثوليكي والمكتبة القبطية والنادي السوري، بجانب الناديين الكبيرين، الهلال والمريخ. كان اسمها الخرطوم أنيقة جميلة، ترقد في سلام أمام مقرن النيلين.
العربي الجديد

الخميس، 1 أكتوبر 2015

مريومة الصغيرة


مريومة الصغيرة ..طفلة تبلغ من العمر خمسة أعوام ..هي احدي نزيلات السكن المستاجر من قبل منظمة (بسمات لرعاية الاطفال المصابين بالسرطان) ...اتت قبل عام مع جدتها من أقصى الغرب الى الخرطوم ...وبعد ان تم تشخيص ما تعانيه انه سرطان الدم مما يتطلب جرعات كيماوية لفترة ليست بالقصيرة ..استقرت هي وجدتها في السكن ...أول ما رأيتها جذبتني عيناها الواسعتان ..تلمعان ببريق ذكاء فطري ..ثم ابتسامة مستمرة رغم المعاناة فالام السرطان لا ترحم ...كانت مريومة كلما حضرت الى السكن ..تجري ...ناحيتي وتسلم علي بحرارة ومن ثم تتجه مباشرة الى يدي اليسرى لتخلع (الدبلة) وتحاول ان تلبسها في أصبعها الصغير ..فتنسحب منها وتقع ..فتعاود المحاولة ..ولا يتطرق اليأس الى قلبها أبدا...والأغرب من ذلك انه عندما احضر في المرة الثانية ..تحاول مرة أخرى بكل فرح ..في خلال محاولاتها هذه أراقبها بصمت ..انظر الى ابتسامتها عند كل وقعة للدبلة ..ثم بحثها الدؤوب عنها تحت الكراسي والأسرة ..وفرحتها عندما تجدها وتضعها في أصبعها مرة اخرى ..قلت لها في المرة الاخيرة (يا مريومة ما تتعبي نفسك ..انت لسه صغيرة وصباعك صغير ..بعدين لما تكبري صباعك بيكبر ..والعريس يجيب ليك دبلة قدرك)...نظرت الي طويلا ..وقالت بكلامها الطفولي (ييييك ..دا متين دا؟)..في تلك اللحظة فهمت ما كانت ترمي اليه الصغيرة ..شئ ما في داخلها قال لها ان ما تعانيه سيستمر وربما (لا قدر الله ) يختصر سنوات عمرها الصغير...فهل ترى انها تستعجل السنوات لتعيش مقدما ما يمكن ان يفوتها ؟؟؟ ...أذكر انني كنت معجبة باعلان في احدي القنوات المصرية ..كان الاعلان عن جمع تبرعات لمرضى القلب من الأطفال..الاعلان يأتي بنماذج من الاطفال يجيبون عن سؤال (نفسك في ايه لما تكبر؟)..تختلف الاجابات وتتنوع بين طيار ومهندس ودكتور ..ولكن احدي الصغيرات تقول (انا نفسي أعيش)..تستوقفك الكلمة وتجد نفسك فجاة وقد غص حلقك ..وملأت الدموع عينيك...ان تصبح الحياة في حد ذاتها مطلبا لطفل ..هذا ما لا نتخيله ..فالاطفال عادة يرون الحياة ممتدة امامهم ويبدو الموت كما الشئ البعيد في الأفق ...ولكنه الواقع المعاش لمريومة واخوتها المصابين بالسرطان ....عندما فهمت ما تفكر فيه صديقتي الصغيرة قررت ان ابحث لها عن دبلة صغيرة المقاس وتناسب اصبعها النحيل ..ولكني لم اجد حتى الأن فكل (الخواتم ) للصغار تزينها فراشات والوان زاهية ولا يوجد (دبل ) بينها ..لا أحد فينا يفكر ان هناك من يريد ان يعيش الأحداث كلها قبل فوات الأوان مثل مريومة..بالأمس ..في احتفال فرحة العيد بالسكن أفتقدتها ...غاص قلبي عميقا ...وتحاشيت السؤال عنها ..خفت أن أسمع ما اخشاه ..فبين كل غيبة وغيبة أفتقد احد الوجوه الصغيرة ويقال لي (أنه أرتاح أخيرا من الألم) وهي العبارة المغلفة التي يزفون بها نبا الوفاة ... ولكنني وفي غمرة قلقي هذا .. رأيتها في نهاية الممر ..كانت مرهقة وتتحرك ببطء ...قيل لي انها كانت محجوزة في المستشفى فالجرعة الكيمائية الأخيرة اتعبتها...أسرعت اليها وقلت لها انني لم انسى وساحضر لها الدبلة المرة القادمة ..ابتسمت ولمعت عيناها وقالت لي (كان ما لقيتيني ..اديها فطومة)..وفطومة هي صديقتها ورفيقة دربها في ذات المرض وذات الجرعات ....يا مريومة ..حتى الوصية لم تنسيها..هززت يدها الصغيرة وقلت لها (ان شاء الله دبلتين ..انت واحدة وفطومة التانية)...تحركت من امامها بسرعة حتى لا ترى دموعي وانا أردد قول المتنبئ (كفى بك داء ان ترى الموت شافيا..وحسب المنايا ان يكن امانيا )...وووصباحكم خير

رواية موسم الهجرة إلى الشمال ـ الطيب صالح (2)



إما أنه فقد ذاكرته ، فهذا محتمل . وأخيراً بدأ مصطفى يتحدث ، ورأيت الطيف الساخر حول عينيه أوضح من أي وقت رأيته فيه . شيء محسوس ، كأنه لمع البرق .
(( سأقول لك كلاماً لم أقله لأحد من قبل . لم أجد سبباً لذلك قبل الآن . قررت هذا حتى لا يجمح خيالك ، وأنت درست الشعر )) . ضحك حتى يخفف حدة الاحتقار التي بدت في صوته وهو يقول هذا .
(( خفت أن تذهب وتتحدث إلى الآخرين . تقول لهم أنني لست الرجل الذي أزعم . فيحدث ... يحدث بعض الحرج ، لي ولهم . لذا فإن لي عندك رجاء واحداً . أن تعدني بشرفك ، أن تقسم لي بأنك لن تبوح لمخلوق بشيء مما سأحدثك به الليلة )) .
(( هذا يعتمد على ما ستقوله لي . كيف أعدك وأنا لا أعلم عنك شيئاً ؟ )) .
فقال : (( إنني أقسم لك بأن شيئاً مما سأقوله لك لن يؤثر على وجودي في هذا البلد . إنني رجل في كامل عقلي ، مسالم ، لا أحب لهذا البلد وأهله إلا الخير )) .
لا أكتمك أنني ترددت . لكن اللحظة كانت مشحونة بالاحتمالات ، وكان فضولي عارماً ليس له حد . خلاصة القول أنني وعدت وأقسمت ، فدفع مصطفى إلي برزمة أوراق وأومأ لي أن أنظر فيها فتحت ورقة فإذا هي وثيقة ميلاده .
مصطفى سعيد ، من مواليد الخرطوم ، 16 أغسطس عام 1898 ... الأب متوفي ، الأم فاطمة عبدالصادق ، فتحت بعد ذلك جواز سفره ، الإسم ، المولد ، البلد ، كما في شهادة الميلاد . المهنة (( طالب )) . تاريخ صدور الجواز عام 1916 في القاهرة وجدد في لندن عام 1926 . كان ثمة جواز سفر آخر ، انكليزي ، صدر في لندن عام 1929 . قلبت صفحاته فإذا أختام كثيرة ، فرنسية وألمانية وصينية ودنماركية . كل هذا شحذ خيالي بشكل لا يوصف ، فلم أستطع المضي في تقليب صفحات جواز السفر ، وانصرف ذهني عن بقية الأوراق . ولابد أن وجهي كان مشحوناً بالترقيب حين نظرت إليه . مضى مصطفى ينفث في دخان سيجارته برهة ، ثم قال : 

إنها قصة طويلة . لكنني لن أقول لك كل شيء . وبعض التفاصيل لن تهمك كثيراً ، وبعضها ... المهم أنني كما ترى ولدت في الخرطوم . نشأت يتيماً ، فقد مات أبي قبل أن أولد ببضعة أشهر ، لكنه ترك لنا ما يستر الحال . كان يعمل في تجارة الجمال . لم يكن لي أخوة ، فلم تكن الحياة عسيرة عليَّ وعلى أمي . حين أرجع الآن بذاكرتي ، أراها بوضوح ، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم ، وعلى وجهها شيء مثل القناع . لا أدري . قناع كثيف ، كأن وجهها صفحة بحر ، هل تفهم ؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة ، تظهر وتغيب وتتمازج . لم يكن لنا أهل . كنا ، أنا وهي ، أهلاً بعضنا لبعض . كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق . لعلني كنت مخلوقاً غريباً ، أو لعل أمي كانت غريبة . لا أدري . لم نكن نتحدث كثيراً ، وكنت ، ولعلك تعجب ، أحس إحساساً دافئاً بأنني حر ، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم ، يربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين . كنت .....أقرأ وأنام ، أخرج وأدخل ، ألعب خارج البيت ، أتسكع في الشوارع ، ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني . إلا أنني منذ صغري ، كنت أحس بأنني ... أنني مختلف . أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني ، لا أتأثر بشيء لا أبكي إذا ضربت ، لا أفرح إذا أثني عليَّ المدرس في الفصل ، لا أتألم لما يتألم له الباقون . كنت مثل شيء مكور من المطاط ، تلقيه في الماء فلا يبتل ، ترميه على الأرض فيقفز . كان ذلك الوقت أول عهدنا بالمدارس أذكر الآن الناس كانوا غير راغبين فيها . كانت الحكومة تبعث أعوانها يجوبون البلاد والأحياء ، فيخفي الناس أبناءهم . كانوا يظنونها شراً عظيماً جاءهم مع جيوش الإحتلال . كنت ألعب مع الصبية خارج دارنا ، فجاء رجل على فرس ، في زي رسمي ووقف فوقنا . جرى الصبية ، وبقيت أنظر إلى الفرس وإلى الرجل فوقه . سألني عن اسمي فأخبرته . قال لي كم عمرك ، فقلت له لا أدري . قال لي : (( هل تحب أن تتعلم في المدرسة ؟ )) قلت له : (( ما هي المدرسة ؟)) فقال لي : (( بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل . يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ . تتعلم القراءة والكتابة والحساب )) . قلت للرجل : (( هل ألبس عمامة كهذه ؟ )) وأشرت إلى شيء كالقبة فوق رأسه . فضحك الرجل وقال لي : (( هذه ليست عمامة . هذه برنيطة . قبعة )) . وترجل من على فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها . ثم قال الرجل : (( حين تكبر ، وتخرج ....من المدرسة ، وتصير موظفاً في الحكومة ، تلبس قبعة كهذه )) قلت للرجل : (( أذهب للمدرسة )) . أردفني الرجل خلفه فوق الحصان ، وحملني إلى مكان ، كما وصفه ، من الحجر ، على ضفة النيل ، تحيط به أشجار وأزهار . ودخلنا على رجل ذي لحية ، يلبس جبة ، فقام وربت على رأسي ، وقال لي : (( لكن أي أبوك ؟ )) فقلت له أن أبي ميت . فقال لي : (( من ولي أمرك ؟ )) قلت له : (( أريد أن أدخل المدرسة )) . نظر إلي الرجل بعطف ، ثم قيدوا اسمي في سجل ، وسألوني كم عمري فقلت لهم لا أدري . وفجأة دق الجرس . فررت منهم ، ودخلت إحدى الحجرات فجاء الرجلان وساقاني إلى حجرة أخرى وأجلساني في مقعد بين صبية آخرين عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أي كنت ، فحكيت لها القصة . نظرت إلي برهة نظرة غامضة ، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها . فقد رأيت وجهها يصفو برهة ، وعينيها تلمعان ، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم ، أو تقول شيئاً . لكنها لم تقل شيئاً . وكانت تلك نقطة تحول في حياتي . كان ذلك أول قرار اتخذته ، بمحض إرادتي .
إنني لا أطلب منك أن تصدق ما أقوله لك . لك أن تعجب وأن تشك . أنت حر . هذه وقائع مضى عليها وقت طويل ، وهي كما ترى الآن ، لا قيمة لها . أقولها لك لأنها تحضرني ، لأن الحوادث بعضها يذكر بالبعض الآخر .

المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة . 
وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . عقلي كأنه مدية حادة ، تقطع في برود وفعالية . لم أُبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إليَّ كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . لكنني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي . وكنت بارداً كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازاً أخرى ، منها اللغة الإنكليزية فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجميل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها أبيات شعر . العالم الواسع أراه في دروس الجغرافيا ، كأنه رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان إنكليزياً : (( هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . إذهب إلى مصر أو لبنان أو إنكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن )) . قلت له على الفور : (( أريد أن أذهب إلى القاهرة )) . فهل لي ، فيما بعد ، السفر ، والدخول مجاناً في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . وهذه حقيقة في حياتي ، كيف قيضت الصدف لي قوماً ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوماً لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعداتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي .
حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أُعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلي مرة أخرى ، تلك النظرة الغريبة افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ثم أطبقتهما ، وعاد كعهده ، قناعاً كثيفاً ، بل مجموعة أقنعة ، ثم غابت قليلاً ، وجاءت بصرة وضعتها في يدي ، وقالت لي : (( لو أن أباك عاش ، لما اختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو ابقَ ، أنت وشأنك . إنها حياتك ، وأنت حر فيها . في هذه الصرة ما تستعين به )) .
كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء . مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً ، ثم سلك كل منهما سبيله . وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي ، فإنني لم أرها بعد ذلك . بعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما الآن ، فإنني لم أشعر بشيء على الإطلاق . جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلوِّح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد .وضرب القطار في الصحراء ، ففكرت قليلاً في البلد الذي خلفته ورائي ، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده ، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري ، وواصلت رحلتي . وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا ، فتخيلها عقلي جبلاً آخر ، أكبر حجماً ، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى . أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الإنكليزية ، فأجبته . أكثر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر إلى وجهي وقال لي : (( كم سنك؟ )) فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشر ، لكنني خفت أن يستخف بي . فقال الرجل : (( إلى أين تقصد ؟ )) فقلت له : (( إنني ذاهب للإلتحاق بمدرسة ثانوية في القاهرة )) . فقال : (( وحدك ؟ )) . قلت نعم . نظر إلي مرة أخرى نظرة طويلة فاحصة ، فقلت له قبل أن يتكلم : (( إنني أحب السفر وحدي . مم أخاف ؟ )) . حينئذ قال لي جملة لم أحفل بها كثيرة وقتذاك . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : (( إنك تتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة مذهلة )) . وصلت القاهرة ، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري ، فقد أخبرهما مستر ستكول بقدومي . صافحني ... الرجل وقال لي : (( كيف أنت يا مستر سعيد ؟ )) فقلت له : (( أنا بخير يا مستر روبنسن )) . ثم قدمني إلى زوجته . وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوقانني ، وبشفتيها على خدي . في تلك اللحظة ، وأنا واقف على رصيف المحطة ، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس ، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي ، وفمها على خدي ، ورائحة جسمها ، رائحة أوروبية غريبة ، تدغدغ أنفي ، وصدرها يلامس صدري ، شعر وأنا الصبي ابن الإثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي ، وأحسست كأن القاهرة ، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري ، امرأة أوروبية ، مثل مسز روبنسن تماماً ، تطوقني ذراعاها ، يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي . كان لو عينيها كلون القاهرة في ذهني ، رمادياً ،أخضر ، يتحول بالليل إلى وميض كوميض اليراعة . 
كانت مسز روبنسن تقول لي : (( وأنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح )) . صحيح أنني لم أكن أضحك . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : (( ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ ويوم حكموا عليَّ في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات ، لم أجد صدراً غير صدرها أسند رأسي إليه . ربتت على رأسي وقالت : (( لا تبك يا طفلي العزيز )) . لم يكن لهما أطفال . كان مستر روبنسن يحسن اللغة العربية ، ويعنى بالفكر الإسلامي والعمارة الإسلامية ، فزرت معهما جوامع القاهرة ، ومتاحفها وآثارها . وكانت أحب مناطق القاهرة 
إليهما ، منطقة الأزهر . كنا حين تكل أقدامنا من الطواف ، نلوذ بمقهى بجوار جامع الأزهر ، ونشرب عصير التمر هندي ، ويقرأ مستر روبنسن شعر المعري . كنت وقتها مشغولاً بنفسي ، فلم أحفل بالحب الذي أسبغاه علي . كانت مسز روبنسن ممتلئة الجسم ، برونزية اللون ، منسجمة مع القاهرة كأنها صورة منتقاة بذوق ، لتناسب لون الجدران في غرفة . وكنت أنظر إلى شعر إبطيها وأحسن بالذعر .. لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها ، لكنها كانت عذبة ، أعذب امرأة عرفتها . تضحك بمرح ، وتحنو علي كما تحنو أم على إبنها .
وكانا على الرصيف حين أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية . ورأيتها من بعيد وهي تلوح لي بمنديها ، ثم تجفف به الدمع من عينيها ، وإلى جوارها زوجها ، واضعاً يديه على خصره ، وأكاد أرى ، حتى من ذلك البعد ، صفاء عينيه الزرقاوين . إلا أنني لم أكن حزيناً ، كان كل همي أن أصل لندن ، جبلاً آخر أكبر من القاهرة ، لا أدري كم ليلة أمكث عنده . كنت في الخامسة عشرة ، يظنني من يراني في العشرين ، متماسكاً على نفسي ، كأنني قربة منفوخة . ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة ، كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي ، وفي صدري إحساس بارد جامد ، كأن جوف صدري مصبوب بالصخر ولما ابتلعت اللجة الساحل ، وهاج الموج تحت السفينة ، واستدار الأفق الأزرق حوالينا ، أحسست تواً ... بألفة غامرة للبحر . انني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي ، كأنه يمور بين ضلوعي . واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في لا مكان ، وحدي ، أمامي وخلفي الأبد أو لا شيء وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ، دائم التبدل والتحول ، مثل القناع الذي على وجه أمي . هنا أيضاً صحراء مخضرة مزرقة ممتدة ، تناديني ، تناديني . وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر ، وإلى لندن ، وإلى المأساة . لقد لسلكت ذلك الطريق بعد ذلك عائداً وكنت أسأل نفسي طوال الرحلة ، هي كان من الممكن تلافي شيء مما وقع ؟ وتر القوس مشدود ، ولا بد أن ينطلق السهم . وأنظر إلى اليسار واليمين ، إلى الخضرة الداكنة ، والقرى السكسونية القائمة على حوافي التلال . سقوف البيوت حمراء ، محدودية كظهور البقر ، وثمة غلالة شفافة من الضباب ، منشورة فوق الوديان . ما أكثر الماء هنا وما أرحب الخضرة . وكل تلك الألوان . ورائحة المكان غريبة ، كرائحة جسد مسز روبنسن . والأصوات لها وقت نظيف في أذني ، مثل حفيف أجنحة الطير . هذا عالم منظم ، بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقاً لخطة . الغدران كذلك ، لا تتعرض ، بل تسيل بين شطآن صناعية . ويقف القطار في المحطة ، بضع دقائق . يخرج الناس مسرعين ، ويدخلون مسرعين ، ثم يتحرك القطاع ، لا ضوضاء . وفكرت في حياتي في القاهرة . لم يحدث شيء ليس في الحسبان . زادت معلوماتي . وحدثت لي أحداث صغيرة ، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني ...
وقالت لي : (( أنت ليس إنساناً . أنت آلة صماء )) . تسكعت في شوارع القاهرة ، وزرت الأوبرا ، ودخلت المسرح ، وقطعت النيل سابحاً ذات مرة . لم يحدث شيء إطلاقاً ، سوى أن القرية زادت انتفاخاً ، وتوتر وتر القوس . سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة . وانظر إلى دخان القطار ، يتلاشى ، حيث تهب به الريح ، في غلالة الضباب المنتشرة في الوديان . وأخذتني سنة من النوم . وحلمت أنني أصلي وحدي في جامعة القلعة . كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات ، والرخام الأحمر يتوهج ، وأنا وحدي أصلي . واستيقظت وفي أنفي رائحة البخور ، فإذا القطار يقترب من لندن . القاهرة مدينة ضاحكة ، وكذلك مسز روبنسن . كانت تريدني أن أناديها باسمها الأول ، اليزابيث ، لكنني كنت أناديها باسم زوجها . تعلمت منها حسب موسيقى باخ ، وشعر كيتس ، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها . لكنني لم أكن استمتع بشيء . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : (( ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ )) . هل كان من الممكن تلافي شيء مما حدث ؟ كنت عائداً حينذاك تذكرت ما قاله لي القسيس ، وأنا في طريقي إلى القاهرة : (( كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية الأمر )) . كانت يده تتحسس الصليب على صدره . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : (( انك تتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة مذهلة )) . اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة . هذه أصوات حية ، لها جرس آخر .

كان عقلي كأنه مدية حادة . لكن اللغة ليست لغتي . تعلمت فصاحتها بالممارسة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
كل شيء حدث قبل لقائي إياها ، كان إرهاصاً . وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذاراً ، لا لقتها ، بل لأكذوبة حياتي . كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ، وفي حفل في تشلسي . الباب ، وممر طويل يؤدي إلى القاعة . فتحت الباب ، وتريثت ، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء . كنت مخموراً ، كأسي بقي ثلثها ، وحولي فتاتان ، أتفحش معهما ، وتضحكان . وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة ، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى ، فيميل كفلها إلى اليسار . وكانت تنظر إلي وهي قادمة . وقفت قبالتي ونظرت إلي بصلف وبرود .. وشيء آخر . وفتحت فمي لأتكلم ، لكنها ذهبت . وقلت لصاحبتي (( من هذه الأنثى ؟ )) .
كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري . عرفت حانات تشلسي ، وأندية هامبستد ، ومنتديات بلومزبري ، أقرأ الشعر ، وأتحدث في الدين والفلسفة ، وأنقد الرسم ، وأقول كلاماً عن روحانيات الشرق . أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي ، ثم أسير إلى صيد آخر . لم يكن في نفسي قطرة من المرح ، كما قالت مسز روبنسن . جلبت ... النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص ، وجمعيات الكويكرز ، ومجتمعات الفابيانيين . حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين أو الشيوعيين ، أسرج بعيري وأذهب . وفي المرة الثانية ، قالت لي جين مورس : (( أنت بشع . لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك )) . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت . وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام . وصحوت وآن همند إلى جواري في الفراش . أي شيء جذب آن همند إليَّ ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين ، وأمها من العوائل الثرية في لفربول كانت صيداً سهلاً ، لقيتها وهي دون العشرين ، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد . كانت حية ، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الإستطلاع . رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب . كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية ، وشموس قاسية ، وآفاق أرجوانية . كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع . آن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات . عمتها زوجة نائب في البرلمان . حولتها في فراشي إلى عاهرة . غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة ، ستائرها وردية منتقاة بعناية ، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام . وأضواء كهربائية صغيرة ، حمراء ، وزرقاء ، وبنفسجية ، موضوعة في زوايا معينة . وعلى الجدران مرايا كبيرة ، حتى إذا ضاجعت امرأة ، بدا كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد . تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة ، وعقاقير كيماوية ، ودهون ، ومساحيق ، وحبوب . غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى . ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة . كنت أعرف كيف أحركها . وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي . ليس فيها سوى هذه العبارة : مستر سعيد . لعنة الله عليك )) . كان عقلي كأنه مدية حادة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا . وإلى عالم جين مورس ، في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ن كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره . كان المدعي العمومي سير آرثر هغتز عقل مريع ، أعرفه تمام المعرفة ، علمني القانون في أكسفورد ، ورأيته من قبل ، في هذه المحكمة نفسها وفي هذه القاعة ، يعتصر المتهمين في قفص الإتهام اعتصاراً . نادراً ما كان يفلت متهم من يده . ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ، بعد أن يفرغ من استجوابهم . لكنه هذه المرة كان يصارع جثة .
(( هل تسببت في انتحار آن همند ؟ ))
(( لا أدري ))
(( وشيلا غرينود ؟ ))
(( لا أدري ))
(( وإيزابيلا سيمور ؟ ))
(( لا أدري ))
(( هل قتلت جين مورس ؟ ))
(( نعم ))
(( قتلتها عمداً ؟ ))
(( نعم ))
كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر . ومضى الرجل يرسم بحذق صورة مريعة لرجل ذئب ، تسبب في انتحار فتاتين ، وحطم امرأة متزوجة ، وقتل زوجته ، رجل أناني ، أنصبت حياته كلها على طلب اللذة . ومرة خطر لي في غيبوبتي ، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي ، برفسور ماكسول فستر كين ، يحاول أن يخلصني من المشنقة ، أن أقف وأصرخ في المحكمة : (( هذا المصطفى سعيد لا وجود له . انه وهم ، أكذوبة . وأنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة )) . لكنني كنت هامداً مثل كومة رماد . ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل . في لحظة غيرة وجنون . روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للإقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين . قال لهم أن (( آن همند )) و (( شيلا غرينود )) كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه . (( مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل ، استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض ..
عضال أصابهما منذ ألف عام )) . وخطر لي أن أقف وأقول لهم : (( هذا زور وتلفيق . قتلتها أنا . أنا صحراء الظمأ . أنا لست عطيلاً . أنا أكذوبة . لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! )) لكن برفسور فستر كين حوَّل المحاكمة إلى صراح بين عالمين ، كنت أنا إحدى ضحاياه . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
لبثت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يزداد وتر القوس توتراً ، قربي مملوءة هواء ن وقوافلي ظمأى ، والسراب يلمع أمام في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : (( أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني )) . وتزوجتها . غرفة نومي صارت ساحة حرب . فراشي كان قطعة من الجحيم . أمسكها فكأنني أمسك سحاباً ، كأنني أضاجع شهاباً ، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي . وتفتأ تلك الإبتسامة المريرة على فمها . أقضي الليل ساهراً ، أخوض المعرفة بالقوس والسيف والرمح والنشاب ، وفي الصباح أرى الإبتسامة ما فتئت على حالها ، فاعلم أنني خسرت الحرب مرى أخرى . كأنني شهريار رقيق ، تشتريه في السوق بدينار ن صادف شهرزاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون . كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار ، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب . رأيت الجنود يعودون ، يملؤهم  الذعر ، من حرب الخنادق والقمل والوباء . رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في معاهدة فرساي ن ورأيت لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهية العامة . وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ، لها رموز ونداءات غامضة ن ضربت إليها أكباد الإبل ، وكاد يقتلني في طلابها الشوق ، غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثوم مرض فتاك . العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل . وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير ، فلم يخفق لها قلبي . من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الإنتحار ؟ خادمة في مطعم في سوهر . بسيطة حلوة المبسم ، حلوة الحديث . أهلها قرويون من ضواحي هل . أغريتها بالهدايا والكلام المعسول ، والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه . جذبها عالمي الجديد عليها . دوختها رائحة الصندق المحروق والند ، ووقفت وقتاً تضحك لخيالها في المرآة ، وتعبث بعقد العاج الذي وضعته كأنشوطة حول جيدها الجميل . دخلت غرفة نومي بتولاً بكراً ، وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها . ماتت دون أن تنبس ببنت شفة . ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . البس لكل حالة لبوسها ، شنى يعرف متى يلاقي طبقه .
(( أليس صحيحاً أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال ، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد ؟ )) .

(( بلى )) .
(( وأنك كنت توهم كلاً منهن بالزواج ؟ ))
(( بلى )) .
(( إنك كنت حسن ، وتشارلز ، وأمين ، ومصطفى ، ورتشارد ؟ ))
(( بلى )) .
(( ومع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الإقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام ؟ أليس صحيحاً أنك أقمت شهرتك بدعوتك الإنسانية في الإقتصاد ؟ ))
(( بلى )) .
ثلاثون عاماً . كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ، وطير الوقوق يغني للربيع كل عام . ثلاثون عاماً وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ ن والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت والهيمار كت . كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ، ومسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب والألق . البحر في مده وجزره في بورتمث وبرايتن ، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام . الجزيرة مثل لحن عذب ، سعيد حزين ، في تحول سرابي مع تحول الفصول . ثلاثون عاما ..

وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه ، ولا أحس جماله الحقيقي ، ولا يعنيني منه غلا ما يملاً فراشي كل ليلة .
نعم ، في الصيف . قالوا أن صيفاً مثله لم يأتهم منذ مائة عام . وخرجت من داري يوم سبت أشمشم الهواء ، وأحس بأنني مقبل على صيد عظيم . وصلت ركن الخطباء في حديقة هايد بارك . كان غاصاً بالخلق . وقفت عن بعد أستمع إلى خطيب من جزر الهند الغربية يتحدث عن مشكلة الملونين . استقرت عيني فجأة على امرأة تشرئب بعنقها لرؤية الخطيب ، فيرتفع ثوبها إلى ما فوق الركبتين ، مظهراً ساقين ملتفتين من البرونز . نعم هذه فريستي . وسرت إليها ، كالقارب يسير إلى الشلال . ووقفت وراءها ، والتصقت حتى أحسست بحرارتها تسري إلي . وشممت رائحة جسدها ، تلك الرائحة التي استقبلتني بها مسز روبنسون على رصيف محطة القاهرة واقتربت منها حتى أحسست بي ، فالتفتت إلي فجأة ، فابتسمت في وجهها ابتسامة لم أكن أعلم مصيرها ، لكنني عزمت على ألا تضيع هباء . وضحكت أيضاً ، حتى لا تنقلب الدهشة في وجهها إلى عداء فابتسمت . ووقفت إلى جانبها نحواً من ربع الساعة ، أضحك حين يضحكها الخطيب ، وأضحك بصوت مرتفع لكي تسري فيها عدوى الضحك ، حتى جاءت لحظة ن أحسست فيها أنني وهي صرنا كفرس ومهرة ، يركضان في تناسق ، جنباً إلى جنب . وهنا خرج الصوت من حلقي ، كأنه ليس صوتي : (( ما رأيك في شراب ، 

بعيداً عن هذا الزحام والحر ؟ )) أدارت رأسها بدهشة ، فابتسمت هذه المرة ابتسامة عريضة بريئة ، حتى أحول الدهشة إلى حب استطلاع على الأقل . وفي أثناء ذلك تفرست في وجهها ، فوجدت كل سمة من سماته يزيدني إقناعاً بأن هذه فريستي . كنت أعلم ، بطبيعة المقامر ، إن تلك اللحظة حاسمة . كل شيء في هذه اللحظة محتمل . وتحولت ابتسامتي إلى سرور كاد يفلت زمامه من يدي حين قالت : (( نعم . ولم لا ؟ )) وسرنا معاً ، أحس بها إلى جانبي وهجاً من البرونز تحت شمس يوليو ، أحس بها مدينة من الأسرار والنعيم . وسرني أنها تضحك بسهولة . هذه السيدة ، نوعها كثير في أوروبا نساء لا يعرفن الخوف ن يقبلن على الحياة بمرح وحب استطلاع . وأنا صحراء الظمأ ، متاهة الرغائب الجنونية . وسألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي . رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال ، وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها . قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود ، وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة . وكانت تستمع إلى بين مصدقة ومكذبة . تضحك ن وتغمض عينيها ، وتحمر وجنتاها . وأحياناً تصغي إلي في صمت ، وفي عينيها عطف مسيحي . وجاءت لحظة أحسست فيها أنني انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً ، يمسك بيده رمحاً ن وبالأخرى نشاباً ، يصيد الفيلة والأسود في الأدغال . هذا حسن . لقد تحول حسب الاستطلاع إلى مرح ، وتحول ...


ونواصل ... 

الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

رواية موسم الهجرة إلى الشمال ـ الطيب صالح


عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ، سبعة أعوام على وجه التحديد ، كنت خلالها أتعلم في أوروبا . تعلمت الكثير ، وغاب عني الكثير ، لكن تلك قصة أخرى المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل ، سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم ، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم ، فرحوا بي وضجوا حولي ، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي ، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس ، ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زماناً في بلاد (( تموت من البرد حيتانها )) . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثيرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب ، أول وهلة رأيتهم . لكن الضباب راح ، واستيقظت ثاني يوم وصولي ، في فراشي الذي أعرفه في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها وأرخيت أذني للريح . ذاك لعمري صوت أعرفه ، له في ....

بلدنا وشوشة مرحة . صوت الريح وهي تمر بالنخل غيره وهي تمر بحقول القمح . وسمعت هديل القمري ، ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا ، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير ، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل ، وإلى عروقها الضاربة في الأرض ، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة . أحس أنني لست ريشة في مهب الريح ، ولكني مثل تلك النخلة ، مخلوق له أصول ، له جذور له هدف .
وجاءت أمي تحمل الشاي . وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء . وجاءت أختي ، وجاء أخواي ، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة . نعم ، الحياة طيبة ، والدنيا كحالها لم تتغير .
فجأة تذكرت وجهاً رأيته بين المستقبلين لم أعرفه . سألتهم عنه ، ووصفته لهم . رجل ربعة القامة ، في نحو الخمسين أو يزيد قليلاً من شوارب الرجال في البلد . رجل وسيم .
وقال أبي : (( هذا مصطفى )) .
مصطفى من ؟ هل هو أحد المغتربين من أبناء البلد عاد ؟ وقال أبي أن مصطفى ليس من أهل البلد ، لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام ، اشترى مزرعة وبنى بيتاً وتزوج بنت محمود ... رجل في حاله ، لا يعلمون عنه الكثير . لا أعلم تماماً ماذا أثار فضولي ، لكنني تذكرت أنه يوم ...

وصولي كان صامتاً . كل أحد سألني وسألته . سألوني عن أوروبا . هل الناس مثلنا أم يختلفون عنا ؟ هل المعيشة غالية أم رخيصة ؟ ماذا يفعل الناس في الشتاء ؟ يقولون إن النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال . وسألني ود الريس : (( هل صحيح أنهم لا يتزوجون ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام ؟ )) .
أسئلة كثيرة رددت عليها حسب علمي . دهشوا حين قلت لهم أن الأوروبيين ، إذا استثنينا فوارق ضئيلة ، مثلنا تماماً ، يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول ، ولهم أخلاق حسنة ، وهم عموماً قوم طيبون .
وسألني محجوب ك (( هل بينهم مزارعون ؟ )) . وقلت له : (( نعم بينهم مزارعون وبينهم كل شيء . منهم العامل والطيب والمزارع والمعلم مثلنا تماماً )) . وآثرت ألا أقول بقية ما خطر على بالي : (( مثلنا تماماً . يولدون ويموتون وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق وبعضها يخيب . يخافون من المجهول ، وينشدون الحب ، ويبحثون عن الطمأنينة في الزوج والولد ز فيهم أقوياء ، وبعضهم حرمته الحياة . لكن الفروق تضيق وأغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء )) . لم أقل لمحجوب هذا ، وليتني قلت ، فقد كان ذكياً . خفت ، من غروري ألا يفهم .

وقالت بنت مجذوب ضاحكة : (( خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء )) .
لكن مصطفى لم يقل شيئاً . ظل يستمع في صمت ، يبتسم أحياناً ، ابتسامة أذكر الآن أنها كانت غامضة ، مثل شخص يحدث نفسه .
نسيت مصطفى بعد ذلك ، فقد بدأت أعيد صلتي بالناس والأشياء في القرية . كنت سعيداً تلك الأيام ، كطفل يرى وجهه في المرآة لأول مرة . وكانت أمي لي بالمرصاد ، تذكرني بمن مات ، لأذهب وأعزي ، وتذكرني بمن تزوج ، لأذهب وأهنئ . جبت البلد طولاً وعرضاً معزياً ومهنئاً . ويوماً ذهبت على مكاني الأثير ، عند جذع شجرة طلح على ضفة النهر . كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة ، أرمي الحجارة في النهر وأحلم ، ويشرد خيالي في الأفق البعيد . أسمع أنين السواقي على النهر ، وتصايح الناس في الحقول ، وخوار ثور أو نهيق حمال . كان الحظ يسعدني أحياناً ، فتمر الباخرة أمامي صاعدة أو نازلة . من مكاني وقامت على ضفة النيل طلمبات لضخ الماء ، كل مكنة تؤدي عمل مائة ساقية . ورأيت الضفة تتقهقر عاماً بعد عام أما لطمات الماء ، وفي جانب آخر يتقهقر الماء أمامها . وكانت تخطر في ذهني أحياناً أفكار غريبة . كنت أفكر ، وأنا أرى ....

الشاطئ يضيق في مكان ، ويتسع في مكان ، أن ذلك شأن الحياة ، تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى . لكن لعلني أدركت ذلك فيما بعد . أنا الآن ، على أي حال ، أدرك هذه الحكمة ، لكن بذهني فقط ، إذ أن عضلاتي تحت جلدي مرنة مطواعة وقلبي متفائل . إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة ، أريد أن أعطي بسخاء ، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر ، ثمة آفاق كثيرة لابد أن تُزار ، ثمة ثمار يجب أن تُقطف ، كتب كثيرة تُقرأ ، وصفحات بيضاء في سجل العمر ، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء . وأنظر على النهر بدأ ماؤه يربد بالطمي ـ لابد أن الطر هطل في هضاب الحبشة ـ وإلى الرجال قاماتهم متكئة على المحاريث ، أو منحنية على المعاول . وتمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تقوم البيوت . أسمع طائراً يغرد ، أو كلباً ينبع ، أو صوت فأس في الحطب ـ وأحس بالاستقرار . أحس أنني مهم ، وأنني مستمر ، ومتكامل . (( ولا ... لست أنا الحجر يلقى في الماء ، لكنني البذرة تبذر في الحقل )) . وأذهب إلى جدي ، فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً ، قبل خمسين عاماً ، لا بل ثمانين ، فيقوى إحساسي بالأمن . كنت أحب جدي ، ويبدو أنه كان يؤثرني . ولعل أحد أسباب صداقتي معه ، إنني كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي ، وكان جدي يحب أن يحكي ، ولما سافرت خفت أن يموت في غيبتي . وكنت حين

يلم بي الحنين إلى أهلي ، أراه في منامي . قلت له ذلك ، فضحك وقال : (( حدثني عراف وأنا شاب ، أنني إذا جاوزت عمر النبوة "يعني الستين " فإنني سأصل المائة )) . وحسبنا عمره ، أنا وهو فوجدنا أنه بقي له نحو إثني عشر عاماً .
كان جدي يحدثني عن حاكم غاشم ، حكم ذلك الإقليم أيام الأتراك . ولست أعلم ما الذي دفع بمصطفى إلى ذهني ، لكني تذكرته بغتة ، فقلت أسأل عنه جدي ، فهو عليم بحسب كل أحد في البلد ونسبه ، بل بأحساب وأنساب مبعثرة قبلي وبحري ، أعلى النهر وأسفله ، لكن جدي هز رأسه وقال انه لا يعلم عنه سوى أنه من نواحي الخرطوم ، وأنه جاء إلى البلد منذ خمسة أعوام ، واشترى أرضاً تفرق وارثوها ، ولم تبق منهم إلا إمرأة . فأغراها الرجل بالمال واشتراها منها . ثم قبل أربعة أعوام زوجه محمود إحدى بناته . قلت لجدي : (( أي بناته ؟ )) فقال : (( أظنها حسنه )) . وهز جدي رأسه وقال : (( تلك القبيلة لا يبالون لمن يزوجون بناتهم )) . لكنه أردف ، كأنه يعتذر ، أن مصطفى طول إقامته في البلد ، لم يبدو منه شيء منفر ، وأنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بإنتظام ، وأنه يسارع (( بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح )) .. هكذا طريقة جدي في الكلام .
***
بعد هذا بيومين ، كنت وحدي أقرأ وقت القيلولة .

كانت أمي وأختي تلغطان مع بعض النسوة في أقصى البيت ، وكان أبي نائماً ، وقد خرج أخواي لشأن ما ، فخلوت بنفسي ، سمعت نحنحة خارج البيت ، فقمت ، فإذا هو مصطفى ، يحمل بطيخة كبيرة ، وزنبيلاً مملوءاً برتقالاً . ولعله رأي الدهشة على وجهي ، فقال : (( أرجو ألا أكون أيقظتك من نوم . لكنني قلت أجيئك بعينة من ثمر الحقل ، تذوقه . كذلك أحب أن أتعرف إليك . وقت الظهيرة ليس وقت زيارة . أعذرني )) .
لم يغب عني أدبه الجم ، فأهل بلدنا لا يبالون بعبارات المجاملة . يدخلون في الموضوع دفعة واحدة ، يزورونك ظهراً كان أو عصراً ، لا يهمهم أن يقدموا المعاذير . رددت الود بالود ، ثم جيء بالشاي .
دققت النظر في وجهه ، وهو مطرق . إنه رجل وسيم دون شك ، جبهته رحبة ، وحاجباه متباعدان ، يقومان أهلة فوق عينيه ، ورأسه بشعره الغزير الأسيب متناسق تماماً مع رقبته وكتفيه ، وانفه حاد منخاراه مليئان بالشعر . ولما رفع وجهه أثناء الحديث ، نظرت إلى فمه وعينيه ، فأحسست بالمزيج الغريب من القوة والضعف في وجه أقرب إلى الجمال منه إلى الوسامة . ويتحدث بهدوء ، لكن صوته واضح قاطع . حين يسكن وجهه . وحين يضحك .....

يغلب الضعف على القوة . ونظرت إلى ذراعيه ، فكانتا قويتين ، عروقها نافرة ، لكن أصابعه كانت طويلة رشيقة ، حين يصل النظر إليهما بعد تأمل الذراع واليد ، تحس بغتة كأنك انحدرت من الجبل إلى الوادي .
قلت أدعه يتحدث ، فهو لم يجيء إليَّ في حمأة القيظ ، إلا ليقول لي شيئاً . ولعله من ناحية أخرى جاء بوازع من حسن النية . لكنه قطع علي حدسي . فقال : (( لعلك الوحيد من أهل البلد ، الذي لم أسعد بالتعرف عليه من قبل )) . لماذا لا يترك هذا الأدب ، ونحن في بلد إذا غضب فيها الرجال ، قال بعضهم لبعض : يا إبن الكلب .
(( سمعت كثيراً عنك من أهلك وأصدقائك )) ـ لا غرو ، فقد كنت أعد نفسي زينة الشباب في البلد .
(( قالوا أنك نلت شهادة كبيرة ـ ماذا تسمونها ؟ الدكتوراه ؟ )) يقول لي ماذا تسمونها ؟ لم يعجبني ذلك ، فقد كنت أحسب أن الملايين العشرة في القطر كلهم سمعوا إنتصاري ، (( يقولون أنك لامع منذ صغرك )) .
(( العفو )) ـ هكذا قلت ، لكنني ، والحق يقال ، كنت تلك الأيام مزهواً بنفسي ، حسن الظن بها .
(( دكتوراه . هذا شيء كبير )) . فقلت له ، وأنا أتصنع التواضع ، إن الأمر لا يعدو أنني قضيت ثلاثة أعوام ، أنقب في حياة شاعر مغمور من شعراء .....

الانكليز . واغتظت ، لا أخفي عليكم أنني اغتظت ، حين ضحك الرجل ملء وجهه ، وقال : (( نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر . لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب ، لكان خيراً )) . انظر كيف يقول ((نحن)) ولا يشملني بها ، مع العلم بأن البلد بلدي ، وهو ـ لا أنا ـ الغريب .
لكنه ابتسم في وجهي برقة ، ولاحظت كيف طغى الضعف في وجهه على القوة ، وكيف أن عينيه في الواقع جميلتان كعيني أنثى ، وقال :
(( لكن نحن مزارعون نفكر فيما يعنينا ، إنما العلم ، مهما كان ، ضروري لرفعة الوطن )) .
صمت برهة ، فازدحمت أسئلة كثيرة في رأسي : من أين هو ؟ ولماذا استقر في هذا البلد ؟ وما هي قصته ؟ ولكنني آثرت التريث ، وأسعفني هو فقال :
(( الحياة في هذا البلد هينة خيرة . الناس طيبون عشرتهم سهلة )) .
فقلت له : (( إنهم يذكرونك بالخير . جدي يقول أنك رجل فاضل )) .
ضحك حينئذ ، ربما لأنه تذكر مقابلة له مع جدي ، وبدأ كأنه سر من قولي ، وقال :
(( جدك .. ذاك رجل . ذاك رجل .. تسعون عاماً وقامته منتصبة ، ونظره حاد ، وكل سن في فمه . يقفز فوق الحمار ....

خفيفاً ، ويمشي من بيته للمسجد في الفجر . هاه ذاك رجل )) . كان خلصاً وهو يقول هذا . ولم لا ؟ وجدي في واقع الأمر ، أعجوبة .
وخفت أن يفلت الرجل قبل أن أعلم عنه شيئاً ـ إلى هذا الحد بلغ فضولي ـ فجرى السؤال على لساني قبل أن أفكر : (( هل صحيح أنك من الخرطوم ؟ )) .
وفوجئ الرجل قليلاً وخيل لي أن ما بين عينيه قد تعكر ، لكنه بسرعة ومهارة عاد إلى هدوئه ، قال لي وهو يتعمد أن يبتسم : (( من ضواحي الخرطوم في الواقع . قل الخرطوم )) .
صمت برهة قصيرة ، وكأنه يناقش بينه وبين نفسه ، هل يصمت أم يعطيني المزيد ، ثم رأيت الطيف الساحر يحول حول عينيه ، تماماً كما رأيته أول يوم ، وقال وهو ينظر إليَّ وجهاً قبالة وجه : (( كنت في الخرطوم أعمل في التجارة . ثم لأسباب عديدة ، قررت أن أتحول للزراعة . كنت طول حياتي أشتاق للاستقرار في هذا الجزء من القطر ، لا أعلم السبب . وركبت الباخرة ، وأنا لا أعلم وجهتي . ولما رست في هذا البلد أعجبتني هيئتها . وهجس هاجس في قلبي : هذا هو المكان . وهكذا كان ، كما ترى . لم يخب ظني في البلد ولا أهله )) . ثم صمت ، وقام قائلاً أنه ذاهب للحقل ، ودعاني للعشاء في بيته بعد يومين .
ولما أوصلته للباب ، قال لي وهو يودعني ، والطيف الساحر أكثر وضوحاً حول عينيه : (( جدك يعرف السر )) .
ولم يمهلني حتى أسأله : (( أي سر يعرفه جدي ؟ جدي ......

ليست له أسرار )) . ولكنه مضى مبتعداً بخطوات نشيطة متحفزة ، رأسه يميل قليلاً إلى اليسار .
***
ذهبت للعشاء فوجدت محجوباً ، والعمدة ، وسعيد التاجر ، وأبي . تعشينا دون أن يقول مصطفى شيئاً يثير الإهتمام . كان كعادته يسمع أكثر مما يتكلم . كنت ، حين يخفت الحديث وحين أجد أنه لا يعنيني كثيراً ، أتلفت حولي كأنني أحاول أن أجد في غرف البيت وجدرانه الجواب على الأسئلة التي تدور في رأسي . لكنه كان بيتاً عادياً ، ليس أحسن ولا أسوأ من بيوت الميسورين في البلد . منقسم إلى جزأين كبقية البيوت ، جزء للنساء ، والقسم الذي فيه (( الديوان )) للرجال ورأيت إلى يمين الديوان غرفة من الطوب الأحمر ، مستطيلة الشكل ، ذات نوافذ خضراء . سقفها لم يكن مسطحاً كالعادة ولكنه كان مثلثاً كظهر الثور .
قمنا أنا ومحجوب وتركنا الباقين . وفي الطريق سألت محجوباً عن مصطفى . لم يخبرني بجديد لكنه قال : (( مصطفى رجل عميق )) .
قضيت في البلد شهرين ، كنت خلالهما سعيداً . وقد جمعتني الصدفة بمصطفى عدة مرات . مرة دعيت لحضور إجتماع لجنة المشروع الزراعي . دعاني محجوب ، رئيس اللجنة وقد كان صديقي ، نشأنا معاً منذ طفولتنا . دخلت عليهم .....

وكان مصطفى بينهم ، وكانوا يبحثون أمراً يتعلق بتوزيع الماء على الحقوق . ويبدو أن بعض الناس ، ومنهم من هو عضو في اللجنة ، كانوا يفتحون الماء في حقولهم قبل الموعد المحدد لهم . واحتد النقاش وتصايحوا بعضهم على بعض وفجأة رأيت مصطفى يهب واقفاً . هدأ اللغط واستمعوا إليه باحترام زائد . وقال مصطفى أن الخضوع للنظام في المشروع أمر مهم وإلا اختلطت الأمور وسادت الفوضى ، وأن على أعضاء اللجنة خاصة أن يكونوا قدوة لغيرهم ، فإذا خالفوا القانون عوقبوا كبقية الناس . ولما فرغ من كلامه هز أغلب أعضاء اللجنة رؤوسهم استحساناً ، وصمت من عناهم الكلام .
لم يكن ثمة أدنى شك في أن الرجل من عجينة أخرى ، وأنه أحقهم برئاسة اللجنة ، لكن ربما لأنه ليس من أهل البلد لم ينتخبوه .
***
بعد هذا بنحو أسبوع ، حدث شيء أذهلني . دعاني محجوب لمجلس شراب . وبينما نحن نسمر جاء مصطفى يكلم محجوباً في شأن من شؤون المشروع . دعاه محجوب أن يجلس فاعتذر ، ولكن محجوب حلف عليه بالطلاق . مرة أخرى لاحظت سحابة التبرم تنعقد ما بين عينيه ، ولكن جلس ، وعاد بسرعة إلى هدوئه الطبيعي . وناوله محجوب كأساً من الشراب ، فتردد برهة ثم أمسك بها ووضعها إلى جانبه .....

دون أن يشرب منها . ومرة أخرى أقسم محجوب ، فشرب مصطفى . كنت أعرف محجوباً متهوراً ، فخطر لي أن أمنعه عن مضايقة الرجل ، إذ من الواضح أنه غير راغب في الجلسة أصلاً . لكن خاطراً آخر هجس في ذهني ، فتوقفت . شرب مصطفى الكأس الأولى باشمئزاز واضح ، شربها بسرعة ، كأنها دواء مقيت . لكنه لما وصل إلى الكأس الثالثة ، أخذ يبطئ ويمص الشراب مصاً ، بلذة . حينئذ ارتخت عضلات وجهه ، وغاب التوتر في أركان فمه ، وأصبحت عيناه حالمتين ناعستين ، أكثر من ذي قبل . القوة التي تحسها في رأسه وجبهته وأنفه ، ضاعت تماماً في الضعف الذي سال ، مع الشراب ، على عينه وفمه . وشرب مصطفى كأساً رابعة ، وكأساً خامسة . لم يعد في حاجة إلى تشجيع ، لكن محجوباً كان يحلف بالطلاق على أي حال . دفن مصطفى قامته في المقعد ، ومدد رجليه . وأمسك الكأس بكلتا يديه ، وسرجت عيناه ، كما خيل لي ، في آفاق بعيدة ، ثم ، فجأة سمعته يتلو شعراً إنكليزياً ، بصوت واضح ونطق سليم . قرأ قصيدة وجدتها فيما بعد بين قصائد عن الحرب العالمية الأولى :
(( هؤلاء نساء فلاندرز ينتظرن الضائعين ،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء ،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار ،

إلى أحضان هؤلاء النسوة ، ذوات الوجوه الميتة ،
ينتظرن الضائعين ،
الذين يرقدون موتى في الخندق والحاجز والطين في ظلام الليل .
هذه محطة تشارنغ كروس . الساعة جاوزت الواحدة .
ثمة ضوء ضئيل
ثمة ألم عظيم )) .
وبعد ذلك تأوه ، وهو لا يزال ممسكاً بالكأس بين يديه وعيناه سارحتان ، في آفاق داخل نفسه .
أقول لكم ، لو أن عفريتاً انشقت عنه الأرض فجأة ، ووقف أمامي ، عيناه تقدحان اللهب ، لما ذعرت أكثر مما ذعرت . وخامرني ، بغتة ، شعور فظيع ، شيء مثل الكابوس ، كأننا نحن الرجال المجتمعين في تلك الغرفة ، لم نكن حقيقة ، إنما وهماً من الأوهام . وقفزت ، ووقفت فوق الرجل ، وصحت فيه : (( ما هذا الذي تقول ؟ ما هذا الذي تقول ؟ )) نظر إلي نظرة جامدة ، لا أدري كيف أصفها ، لكن لعلها كانت خليطاً من الاحتقار والضيق . ودفعني بعنف بيده ، ثم هب واقفاً ، وخرج من الغرفة في خطوات ثابتة ، مرفوع الرأس ، كأنه شيء ميكانيكي . كان محجوب مشغول يضحك مع بقية من في المجلس ، فلم ينتبه لما حدث .
ذهبت إليه ثاني يوم في حقله ، فوجدته مكباً يحفر الأرض حول شجرة ليمون . كان مرتدياً سروالاً من الكاكي قصيراً ...

متسخاً ، وقميصاً من الدبلان يصل إلى ركبتيه ، وعلى وجهه بقع من الطين . حياني بأدبه الجم كعادته وقال لي : (( بعض فروع هذه الشجرة تثمر ليموناً ، وبعضها يثمر برتقالاً )) . فقلت له بالإنجليزي ، عمداً : (( شيء مدهش )) . فنظر إلي مستغرباً وقال : (( ماذا ؟ )) فأعدت الجملة . ضحك وقال لي : (( هل أنستك إقامتك الطويلة في إنجلترا العربي ، أم تحسب أننا خواجات ؟ )) قلت له : (( لكنك ليلة أمس قرأت الشعر اللغة الإنجليزية )) .
غاظني صمته . فقلت له : (( من الواضح أنك شخص آخر غير ما تزعم . من الخير أن تقول لي الحقيقة )) . لم يبد عليه أي تأثر بالتهديد الذي ضمنته كلامي ، ومضى يحفر حول الشجرة . ولما فرغ من حفره ، قال وهو ينفض الطين عن يديه دون أن ينظر إلي : (( لا أدري ما ذا قلت وماذا فعلت في الليلة الماضية . السكران لا يؤاخذ على كلامه . إذا كنت قلت شيئاً ، فهو كخترفة النائم ، أو هذيان المحموم . ليست له قيمة . أنا هو هذه الشخص الذي أمامك ، كما يعرفه كل أحد في البلد . لست خلاف ذلك ، وليس عندي شيء أخفيه )) .
ذهبت إلى البيت ، ورأسي يضج بالأفكار . أنا واثق أن وراء (( مصطفى )) قصة ، أو شيئاً لا يود أن يبوح به . هل خانتني أذناي ليلة البارحة ؟ الشعر الإنجليزي الذي قرأه ،

كان حقيقة . لم أكن سكران ، ولم أكن نائماً ، وصورته وهو جالس في ذلك المقعد ، ممداً رجليه ، ممسكاً بالكأس بكلتا يديه ، صورة واضحة لا مراء فيها . هل أحدث أبي ؟ هل أقول لمحجوب ؟ لعل الرجل قتل أحداً في مكان ما وفر من السجن ؟ لعله ... لكن أية أسرار في هذا البلد ؟ لعله فقد ذاكرته ؟ يقال أن بعض الناس يصابون (( بالامنيزيا )) إثر حادث . وأخيراً قررت أن أمهله يومين أو ثلاثة ، فإذا لم يأتني بالحقيقة ، كان لي معه شأن آخر .
لم يطل انتظاري ، فقد جاءني مصطفى عشية ذلك اليوم . وجد أبي وأخوي أيضاً ، فقال أنه يريد أن يحدثني على إنفراد . قمت معه ، فقال لي : (( هل تحضر إلى بيتي مساء غد ؟ أريد أن أتحدث إليك )) . ولما عدت سألني أبي : (( ماذا يريد مصطفى ؟ )) فقلت له أنه يريد أن أفسر له عقداً بملكية أرض له في الخرطوم .
رحت إليه عند المغيب ، فوجدته وحده ، أمامه آنية شاي . عرض علي الشاي فأبيت ، فقد كنت في الحقيقة أتعجل سماع القصة . لابد أنه قرر أن يقول الحقيقة . أعطاني سيجارة فقبلتها .
تفرست في وجهه وهو ينفث الدخان ببطء ، فبدأ هادئاً قوياً . أبعدت الفكرة ، وأنا أنظر في وجهه ، أن يكون قاتلاً . إستعمال العنف يترك أثراً في الوجه لا تخطئه العين .
يتبع

الجمعة، 18 سبتمبر 2015

عبد العزيز المبارك: فرقة اسرائيلية تغني أغنيتي (احلى عيون بنريدا) بنفس لحنها وموسيقاها



كان فتى صغيراً يجوب طرقات مدني .. وصوته المفعم بالصبابة والتطريب يكسر حد (الرتابة) بهمسات مدوزنة بحلم الصبا وأغنيات الحقيبة قبل ان يكتمل طريق الشوق وقبل ان تصل انفاسه يا جارة يا جارة.
في المساءات الطاااعمة في مدينة الجمال كانت (يا ماري بي بيتنا) مظلة من رهق المشاوير المتعبة .. و (تحرمني منكك) و (ما كنت عارف) نشق التباريح لتتجاسر على الصد، وتمنح زهر البنفسج عبيراً جديداً لامل مخضر وقادم إنه عبد العزيز المبارك جاء الينا بـ(ألوان) بابتسامة حلوة تتحدى جور زماني.
ووجد من الاحتفاء من الزملاء بألوان مما يؤكد أن وجوده الحاضر كان اكبر من كل غيابات الذكرى.. عبد العزيز وضعت له مؤسسة اروقة عنوان وفاء يماثل عطاءه بتكريمه في قاعة اسبارك سيتي غداً الجمعة. عزنا جمل زمان ومكان (ألوان) فازدانت بالبهاء..



٭ الفنان عبد العزيز المبارك بعيداً عن الساحة؟
– اعتدل في جلسته وقال أين هي الساحة؟ .. الساحة الآن اصبحت فارغة تماماً حيث غاب الحراك القديم.



٭ فترة السبعينات كانت خصبة وصاحبت ظهوركم ماهي سمات تلك المرحلة؟
– فترة منتصف السبعينات الى التسعينات من اجمل فترات الابداع في السودان لانها كانت همزة وصل بين القديم والجديد انا ظهرت في هذه الفترة واهم سماتها التعاون والروح الجميلة وعشقنا للفن الاصيل .



٭ من هو دفعتك في الفن وبمن تأثرت من الفنانين الذين سبقوكم؟
– الفنان المرحوم خوجلي عثمان هو دفعتي في الفن .. وفي بداياتي كنت اغني لجميع الفنانين وردي وعثمان حسين وزيدان وسيد خليفة وأحمد المصطفى وحسن عطية .. ولكن بمجرد ما سجلت اعمالي الخاصة لم اغن لاحدهم ابداً.. نحن جيل وجدنا الابداع حولنا وحاولنا قدر المستطاع ان نستفيد من هؤلاء العمالقة الكبار التفاني وحب الفن دون اي حساسية او صراع فذلك هو الزمن الجميل زمن كان من ازهى فترات الاغنية السودانية واستطعنا باعمالنا الخاصة ان نكمل المسيرة دون ان نفصل المراحل.



٭ فترة منتصف السبعينات هل تميزت بسبب النصوص الجيدة والالحان .. أم الاصوات الجميلة؟
– هي مجموعة عوامل كثيرة توفرت لدينا اهمها النصوص الجميلة والالحان وحتى الموسيقى ونحن حاولنا ان ندخل كمنافسين مع هؤلاء الكبار بلونيتنا وذهبنا في نفس المسار واعتمدنا على عطائنا الخاص واعتقد اننا نجحنا في ذلك .



٭ ماهي اول اغنية قدمتها لتكون رهان النجاح؟
– انا لم ادخل باغنية واحدة وانما مجموعة اغنيات مثل اغنية ما كنت عارف .. وطريق الشوق ويا ماري بي بيتنا ثم توالت الاغنيات مثل اغنية بتقولي لا .. وليه قلبي ليه والبسمة ديك وغيرها من الاعمال.



٭ كيف تعلمت العزف على العود؟
– تعلمت ذلك منذ البدايات واتعلمت عزف العود مع الفنان علي السقيد وكان ذلك بمدينة ودمدني حيث كان زميلي بالمدرسة.



٭ مدني مستودع النجوم ماذا قدمت لك؟
– مدني قدمت لي الكثير منها انطلقت اقدم أغنياتي .. وكانت نقطة تحول في حياتي الفنية وبالفعل مدني معطاء بنجومها الكبار الذين ارسوا دعائم الاغنية السودانية وعلى رأسهم محمد الامين وابوعركي والشاعر الكبير المساح وغيرهم من فناني هذه المدينة الجميلة.



٭ التعاون المثمر والاغنيات المهداة كانت عنواناً مشرقاً لمسيرتكم؟
– نعم التعاون كان السمة السائدة ومازلت اذكر ان الفنان الطيب عبد الله سمعني في مدينة ودمدني واعجب بصوتي .. قال لي عندي ليك هدية عندما تحضر للخرطوم وبالفعل عندما ذهبت اهداني اغنية (طريق الشوق) وهي من كلمات وألحان الطيب عبد الله أغنية (ليه يا قلبي ليه) هذه الاغنية من كلمات الدكتور علي شبيكة والحان السني الضوي .. وكان ثنائي العاصمة بصدد تقديمها بعد أن قاما بعمل البروفات ولكن تنازل ثنائي العاصمة عن هذه الاغنية وتم تقديمها لي كهدية .
واغنية (البسمة ديك) جاءني الفنان إبراهيم حسين في منزلي واهداني هذه الاغنية بطيب خاطر .. إنه الزمن الجميل والفن الجميل الذي ظللنا نفقده هذه الايام.



٭ اغنية (بتقولي لا) كانت مهمة الشباب المراهقين في ذلك الزمن وتعاطي الوجدانيات النبيلة كيف كانت هذه الأغنية؟
– هي من الاغنيات الجميلة وكلما ذهبت الى حفلة كان يتكاثر عليها الطلب … وهي من كلمات الشاعر عثمان خالد والحان الفاتح كسلاوي ..
(بتقولي لا) كانت كلمات صادقة صاغها الشاعر عثمان خالد بانفعال والملحن القدير الفاتح كسلاوي باحساسه الرقيق وضع لها المعالجة اللحنية المناسبة.
احتراماً لنفسي توقفت عن الحفلات بالسعودية..



٭ الغربة في حياة فنان مثل عبد العزيز المبارك هل اشعار اضافة أم فاتورة خصم؟
– الغربة داء قاتل للفنان اياً كان ما يقدمه ولا يمكن ابداً أن تضيف للفنان مكثت حوالي عشر سنوات بالمملكة العربية السعودية وقد كانت فترة قاسية .



٭ألم تقدم حفلات للجالية السودانية هناك؟
– لم تكن لدي مشاركة بالمملكة العربية وانا احتراماً لنفسي توقفت عن إقامة الحفلات بالمنطقة وكانت هنالك قوانين بالمملكة العربية السعودية لمنع الحفلات المشتركة أو الاختلاط ولكن كنت أسافر لمصر ودولة الامارات لاحياء حفلات جماهيرية للجالية السودانية.



٭ لاحظنا ان لديك جمهور في اوربا تحديداً على غير الفنانين الذين جابوا العالم ماهو سر انبهار الاوربيين بك؟
– ذلك لانني شاركت في كثير من المهرجانات وعملت تسجيلات في اروبا الغربية .. وجاءتني دعوة من اليابانيين لانهم كانوا يتسمعون للاسطوانات (السي دي) ويتفاعلوا معها بصورة كبيرة جداً.. وكل ذلك يرجع لتقارب وتشابه السلالم الموسيقية وهو السلم الخماسي الذي تتعامل معه اروبا وآسيا موسيقياً لذلك تجد انهم يتقبلون الموسيقى السودانية لانها قريبة لاحساسهم بغض النظر عن اللغة .. لان الموسيقى هي الاساس في التواصل الفني والثقافي فهي اللغة التي تجمع العالم كله لذلك طبيعي جداً ان تجد الاغنية السودانية القبول عند الأوربيين والآسيويين لان الايقاع واحد .. والاحساس واحد وانا لاحظت ذلك في زياراتي لاروبا.



٭ الأغنية السودانية ظلت حبيسة وتتقوقع في الداخل وغير منتشرة بالخارج لماذا؟
– أولاً الاغنية السودانية منتشرة جداً في الدول الغربية والآسيوية بصورة كبيرة جداً إلا في الدول العربية وهذه حقيقة الاذن العربية لا تستسيغ الاغنية السودانية لاختلاف السلالم ما بين الخماسي والسباعي .. بينما يستمع اليها العالم أجمع في أروبا وآسيا وإفريقيا وربما هذا هو السبب الذي يجعلنا نتخيل أن الأغنية السودانية غير منتشرة وقد تندهش كثيراً اذا قلت لك انني وجدت في مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) فرقة اسرائيلية تغني أغنية (احلى عيون بنريدا) بنفس لحنها وموسيقاها وهذا تأكيد على ان اغنيتنا منتشرة ويرددها العالم من حولنا وحتى اسرائيل الدولة التي تكن لنا العداء ومزقت وحدتنا العربية نجدهم يتغنون باغنياتنا.



٭ ماهي نسبة وجود الاغنية في إفريقيا؟
– تجد حظها في الانتشار على مستوى الدول الإفريقية القريبة إلينا .. تجد معظمهم يعرف أغاني وردي وسيد خليفة وعثمان حسين وغيرهم واذكر اننا ذهبنا مع الرئيس نميري لاديس ابابا برفقة الفنانين أحمد المصطفى وسيد خليفة وخوجلي عثمان وثنائي العاصمة وفرقة الاكروبات الاثيوبية .. وقدمت أغنية (نانو) وعند عمل البروفات اللازمة انضم الينا العازفون الاثيوبيون بمجرد سماعهم للاغنية وتم توقيعها بطريقة سليمة ولاول مرة اخاف على خشبة المسرح عندما رأيت الحشود وبالفعل قدمت الاغنية ووجدت القبول والاحتفاء وتفاعل معها الجمهور الاثيوبي ومازالت آثار تلك الحفلة باقية في ذاكرتي وتأكد لي خلالها باننا نتشابه مع الافارقة في الايقاعات والاهتمام بالاحساس وهو ايضا بمثابة تأكيد بأن الاغنية السودانية تجد القبول عند الأفارقة.



٭ هنالك اغنيات جميلة مثل زي ما بنشفق ويا عبير لم تغنيها كثيراً؟
– نعم اغنيات جميلة ولكن لم تجد حظها من الانتشار يا عبير كلمات سعدية عبد السلام .. وزي ما بنشفق كلمات عزمي احمد خليل .. والحان عمر الشاعر.



٭ كنت قريب جداً من الشاعر سيف الدين الدسوقي انت في العباسية .. وهو في حي العرب لم يكن هنالك تعاون بينكما واكتفيت بالشاعر جعفر محمد عثمان والملحن عمر الشاعر لماذا؟
– صحيح ان منطقة العباسية عرفتني بالشاعر جعفر محمد عثمان والملحن عمر الشاعر وقدمنا اغنيات جميلة ولكن كلامك عن سيف الدين الدسوقي لم يكن صحيحاً لانني بالفعل قدمت أغنية (ايه الحصل) للشاعر سيف الدين الدسوقي وألحان بشير عباس.



٭ ماهي علاقتك بالصوفية؟
– والدي كان من شيوخ الطائفية الختمية وكنت بستمع للمدائح ونقرأ المولد كل اثنين وخميس وقدمت مناجاة تائب ألحان احمد المبارك.



٭ هل قدمت اغنيات بالفصحى؟
– نعم قدمت اغنية (الموسيقى العمياء) واشتهرت بالكوكب الفضي واغنية لا تدعني للأمير عبد الله الفيصل وألحان بشير عباس .



٭ موقف طريف؟
– اذكر في حي العرب وقعت امرأة كبيرة كانت مهووسة بـ(الزار) عندما غنيت الاغنية الحبشية واصبحنا في موقف لا نحسد عليه.



٭ سمعنا عن مبادرة تكريمك بالجمعة؟
– هي مبادرة قامت بها مؤسسة اروقة للثقافة والفنون نشكر الاستاذ السموأل على هذه اصللفتة البارعة حفلة التكريم يوم غد الجمعة في قاعة اسبارك سيتي ويشارك فيها الفنان نميري حسين باغنية يا ماري بي بيتنا وانصاف فتحي باغنية بصراحة كلمات الحلنقي والحان بشير عباس والفنان عماد الطيب باغنية (ليه يا قلبي ليه).



٭ وختاماً؟
– اشكر مؤسسة أروقة للثقافة على اهتمامهم المتعاظم بالفن السوداني وتوثيقه وهم يكرمون الفنانين احياء واتمنى من الجمهور الحضور لقاعة اسبارك سيتي فهو حفل مجاني للتواصل مع الجمهور.



٭ الحقيبة نهر لابد أن ينهل منه أي فنان كيف استطعت ان تنفذ الى هذا المنهل العذب؟
– نعم الحقيبة هي المعين والمنهل العذب كما ذكرت ولكن يجب أن تتجاوز البدايات. انا قدمت اربع اغنيات حقيبة يا نجوم الليل اشهدي .. وأنابيك سعادتي مؤكدة لعبد الرحمن الريح واغنية آهـ من جور زماني لعبيد عبد الرحمن وصابحني دايماً مبتسم لخالد أبو الروس وإبراهيم الكاشف.



٭ عبد العزيز المبارك لم يغامر بتجربة التلحين؟
– فعلا انا لم اقم بتلحين اغنية واحدة من اغنياتي وذلك لانني موقن تماماً بأن من يلحن لنفسه تأتي اغنياته متشابهة وذات قالب واحد وانا كنت ابحث عن التنوع لذلك لجأت الى الملحن عمر الشاعر في (ما كنت عارف) وآخر العشرة واحلى عيون بنريدا وزي ما بنشفق والفاتح كسلاوي (بتقولي لا) ويا عزنا .. وود الحاوي (احلى جارة) والسني الضوي ليه يا قلبي ليه .. وبوصيك يا المفارق .. واخي أحمد المبارك في ليل الغريب ويا عسل وغيرهم من الملحنين.



٭ الاصوات الشبابية هل تمثل الرهان للمستقبل ومن يعجبك؟
– توجد اصوات شبابية جميلة قلة ولكن إذا عايزين يرسخوا في أذهاننا عليهم أن لا يقلدوا أعمالنا وانما يأتوا بالجديد وحتى برنامج (اغاني واغاني) ساعدهم على عدم الاهتمام بانفسهم وترديد اغنيات الآخرين اما الاصوات الشبابية التي اعجبتني الفنانين الشباب الذين صنعوا لونتيهم وقدموا اعمالهم الخاصة.



٭ اتحاد المهن الموسيقية ككيان ما الذي يربطك به؟
– انا عضو فعال جداً في اتحاد المهن الموسيقية ومشارك معهم بصورة جيدة .



٭ قانون المصنفات الفنية والادبية؟
– هذا القانون مجحف جدا إذا اعتبر حق الفنان حق مجاور .. أو الشاعر والموضوع محتاج لاعادة نظر .. حتى يرضي جميع اطراف المنظومة التي تتكون من الشاعر والملحن والفنان والموسيقي.


أجراه: عبد المنعم مختار – رمزي حسن
ألوان