عبد الرحمن صالح-
ربما لم يتخيل أحد ان الفتاة الخجولة الطيبة «آية» التي تدرس بالمستوى الثالث طب بجامعة العلوم الطبية، ولا يسمع الكثيرون صوتها حتى وان كان من اقرب ذويها، ربما لم يكونوا يعتقدون او حتى في ابعد تصورهم عنها، انها ستسعى للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وعلى الرغم من تدينها المعتدل الذي لم يكن يشي بأمر فيه نوع من التطرف، وعلى الرغم من ان ظهور ظاهرة الانضمام الى داعش وسط الشباب ربما تنتج بسبب الفراغ، الا ان احداً لم يعتقد أن «آية» ستنضم لداعش، ولذا كان الذهول والاندهاش هو سيد الموقف لدى الجميع.
وصلت الى منزل آية بدعوة من احد اقربائها عند الساعة السابعة مساءً في اليوم الثالث لاختفائها، وكان الحزن والصمت هو المسيطر على افراد الاسرة والموجودين في المنزل، وعلى الرغم من امتلائه لا تسمع صوتاً الا همساً، ربما لأن الجميع لا يجد ما يقوله، فعبارات المواساة لن تجدي احياناً للتخفيف عن مآل الحال، ولكن لعل الرابط بين الجميع حالة من الانجذاب الروحي وتلبس حالة الدعاء ايماناً بأن الله يعرف حال الجميع، وحاولت البحث عن والدتها لاخذ القليل من المعلومات عن آية وان لم اجد، فكانت مواساتي لها ستخفف عني حالة الحزن التي اعترتني وانا داخل منزلها وكأنني احد اقربائها المقربين، ولكني فشلت في مسعاي بسبب حالة الانهيار التي تسيطر على الأم المسكينة، فبحثت عن والدها فلم أجده، وعلمت أنه ذهب للتحضير للسفر لتركيا ممنياً نفسه بالعثور على حبيبته «آية»، فرابطت بالمنزل مثلي مثل الموجودين نتشارك حالة واحدة هي حالة الحزن.
وبينما أنا اجلس بداخل المنزل في انتظار والد «آية» حضرت جدة «آية» وهي خالة والدتها، ونقلت الي ان «آية» اكبر اخوتها البالغين خمسة «ثلاثة اولاد وبنتان»، وبدت حزينة جداً وهي تتذكر «آية»، وهي تتحسر وتتمنى لو أن «آية» كانت قد دخلت في علاقة عاطفية تشغلها بدلاً من الانضمام لهؤلاء الارهابيين. وقالت لي: «ياريت يا ولدي البت دي لو حبت ليها ولد كان شغلها وما فكرت تسافر»، واوصلت قائلة: «لكن مشكلتها انها مسكينة ومؤدبة ومتدينة شديد، وما بتأكل مع ود خالتها في صحن واحد». وعند تلك العبارة حضر الوالد، فتركت الجدة وتوجهت صوبه، وعرفته بنفسي ورغبتي في اخذ معلومات قليلة عن «آية» لعلها تساعد في العثور عليها او تحرك قضية انضمام شبابنا لداعش عند الدولة فتجد لها علاجاً، فعند ذهاب الدفعة الاولى من الشباب لداعش حسبناها الأخيرة، ولكن يبدو ان الله يريد شيئاً آخر. وتحفظ الوالد في البداية، ولعل حدة احد اقربائه الموجودين في التعامل معي ــ وهي حدة متفهمة لاعتبارات كثيرة ــ جعلته يذعن قليلاً ويطيب خاطري باعتباري في منزله، ويوافق على منحي بعض المعلومات المفتاحية عن ابنته وعن حالها قبل سفرها للانضمام لداعش، وعند بدء حديثه معي تيقنت تماماً ان قلب الأب كان يحس بأن هناك خطباً ما سيحدث، وهذا ما سنعلمه من خلال الحديث اللاحق، لذا ساترككم أعزائي القراء مع والدها وهو يسرد روايته.
«1»
ويروي والد الطالبة آية الليثي الحاج يوسف بعبارات ثابتة ولكن نبرة الحزن تغلب عليها لـ «الانتباهة» التفاصيل الكاملة لاختفاء ابنته، ويرجع بنا الليثي لفترة قليلة سابقة لالتحاق ابنته بالجامعة، ويشير الى انها لم تكن على الاطلاق متشددة، ويصف طبعها بالعادي جداً، فهي ترتدي الملابس الحديثة كشابة، ولكن يبدو ان «آية» بدت علامات التغير عليها عقب «7» اشهر فقط من دخولها الجامعة، ولكن كان تغيراً ايجابياً من وجهة نظره كأب، ولا يوجد من يعترض عليه، فقد بدأت «آية» في التحجب، ويوضح انها بطبيعتها هادئة وكتومة، واستمرت على هذا النهج لما يقارب السنة ونصف السنة، ويؤكد انهم لم يعترضوا على سلوكها الديني واصبحت منتظمة في صلواتها، وصادقة في حديثها، ولم نعهد منها كذباً، لذلك اطمأننا إليها كثيراً.
«2»
وتستمر رواية الليثي، ويشير الى ان مؤشرات التغيير استمرت على ابنته، فبدأت تتعرف على صديقات جديدات لم نكن نعلم عنهن شيئاً كسابق صديقاتها اللائي كنا نعلم عنهن اي شيء، ولطبيعة الانشغال بالعمل لم تتح لنا الفرصة للتعرف على صديقاتها الجديدات، ويبدو أن قلب الوالدة يشعر بأن هناك خطباً ما قادم، فقد بدأت بالتواصل مع ابنتها في الجامعة عبر الزيارات المتكررة لها للاطمئنان إليها، ويشير الليثي الى ان معدلات الاهتمام ارتفعت في المنزل بصورة كبيرة عند انضمام صديقتها «سجى» لداعش، فازداد التركيز عليها، ويشير الى انه اصبح يجالسها أكثر فأكثر، ويوضح انه كان يناقشها على الدوام في امر صديقتها التي انضمت لداعش، ويقول انه كان يسألها عن لماذا تفعل صديقتها مثل هذا الامر بوالديها، ويبغلها ان ما قامت به «سجى» بدون رضاء والديها يتعارض مع تعاليم الاسلام، ويمضي الليثي في التأكيد على ابنته ــ حينها ــ بأن على الابناء مراعاة والديهم وبرهم، وان اي شيء يضر بهما ليس من الدين.
«3»
ويمضي الأب المكلوم في روايته ويشير الى حدوث بعض التغييرات الايجابية على ابنته عقب انضمام صديقتها لداعش، فرجعت «آية» لطبيعتها الاولى واصبحت ترتدي ملابسها الاولى الحديثة، واصبحت تذهب الى المناسبات، ولكي يتم اخراج الابنة من اجواء «داعش» فقد تم ترتيب رحلة لها ولكل الأسرة للقاهرة في رمضان الماضي بغرض اخراجها من الاجواء التي تعيشها، ويؤكد أن الرحلة كانت ناجحة، ويشير الى التغيير الجديد الذي بدا يظهر عليها ايضاً بإغلاقها المستمر للواتساب، ويقول إنني حمدت الله على ذلك، وقلت «مادام الواتس مقفول مافي مشكلة»، ويبدو ان دوام الحال من المحال، فعقب عيد الفطر بدأت والدتها في ملاحظة انها رجعت مرة اخرى إلى استخدام الموبايل استخداماً كثيراً، الا اننا حسبنا انه «انفتاح شباب علي التكنلوجيا»، ويشير الى ان والدتها لاحظت ايضاً ان «آية» تستخدم برنامج «التلغرام» بدلاً من الواتس، ويبدو ان للأمر علاقة بانضمامها لداعش، فيقول: في ايامها الاخيرة قبل السفر كانت لديها اتصالات كثيرة بالتلغرام، ويبدو ان قلب الأم كان الاكثر قلقلاً، فقد كانت امها تصر على ان اقوم بتفتيش هاتف ابنته لاحساسها بأن هناك خطراً قادماً، ويضيف بكل حزن الدنيا علي وجهه: «للأسف الزمن لم يسعفنا للبحث في هاتفها».. وعند هذه النقطة احسست بأن الليثي لا يستطيع ان يواصل الحديث، فحاولت ان اتوقف الا انه اصر على الاستمرار.
«4»
ويرجع بي الوالد لليوم السابق لسفرها، فقد اخبرته بأنها تريد الذهاب للغداء مع صديقاتها في مطعم «سولتير» فذهبت بها للمطعم، ويشير الى انه اتصل بها لاحقاً للاطمئنان عليها، فأبلغته بأنها رجعت للمنزل، وبسؤاله لها لماذا رجعت بهذه السرعة اجابته ان صديقاتها لم يحضرن جميعاً، وعند عودته مساءً الي المنزل اخبرته بأن صديقاتها سوف يتجمعن في اليوم الثاني، وانها تريد الذهاب للقائهن.
«5»
ولإحساس «آية» بأن الرقابة عليها كبيرة من والديها ارادت ان تموههما، ففي اليوم الموعود للسفر للانضمام لداعش طلبت من والدها ان يوصلها لصديقاتها للغداء معهن، واشارت اليه إن كان مشغولاً إلى ان يرسل اليها السائق لايصالها، ويروي الليثي أنه طلب من السائق ان يوصلها، فحضر السائق للمنزل وانتظرها امام المنزل لما يزيد عن الساعة ونصف الساعة حتى نزلت اليه واخذها لصديقاتها، ويضيف انه كان يتابع معها بالهاتف الى ان نزلت الى السائق الذي اوصلها لهن، ويشير الى ان والدتها كانت قد حضرت لها ما تلبسه للذهاب لصديقاتها، وبعد خروجها اتصلت الوالدة بأخيها الصغير وسألته عما اذا كانت «آية» قد خرجت، ثم سألته عن اللبسة التي ارتدتها، وعند أخبرها بأنها خرجت بعباية تلبستها حالة من الخوف العارم على ابنتها، فتوجهت مباشرة الى المطعم «ماي بليس» الذي كان من المفترض ان تتناول فيه «آية» الطعام مع صديقاتها، فلم تجدها، وبمحاولتها الاتصال بها وجدت هاتفها مغلقاً، وعند هذه النقطة لم تتمالك الوالدة نفسها واتصلت بي ثم عادت للمنزل، ولم اتمالك انا اعصابي فقد انهرت تماماً، فعادت الأم المسكينة للمنزل وذهبت للبحث عن جواز ابنتها فلم تجده، وعند سؤالي السائق عن المطعم الذي اوصلها له وعن هيئتها وعن من كن معها، ابلغني بأن صديقاتها اللاتي التقتهن كن منقبات.
«6»
ويقول الليثي إنه تمالك اعصابه واتصل على الفور بصديق له في جهاز الأمن الذي بدوره شرح له الخطوات التي يجب اتباعها، فذهب للتبليغ عن اختفاء ابنته في مبني جهاز الأمن، ومن ثم توجه صوب المطار، وكان الزمن حوالى الساعة السابعة مساءً، ويشير الى انه وجد «6» رحلات مغادرة في ذلك التوقيت مما خلق حالة كبيرة من الازدحام، فبحث عنها بأعينه فلم يستطع ان يعثر عليها، فتوجه صوب امن المطار واعطاهم اسمها فلم يتم العثور عليها وسط الاسماء المغادرة، واخبروه بأنها دخلت السودان في يوم «28/7» قادمة من القاهرة، ويذكر الليثي ان تركيزهم كان منصباً على الرحلة المغادرة الى تركيا، وتم البحث عنها فيها فلم يتم العثور على اسمها معهم، وعلى الرغم من حزنه يعبر الليثي عن بالغ شكره لتعاون أمن المطار معه، ويشير الى انه وجد تعاوناً كبيراً منهم ، وعندما لم يتم العثور على اسمها سألوه عن رقم هاتفها، فاتضح لهم ان آخر اتصال اجرته مع صديقتها التي سافرت معها، ويقول انهم ظلوا يبحثون داخل المطار عنها الى الخامسة صباحاً دون فائدة.
«7»
ويوضح أنهم توجهوا لاحقاً الى صالة الأمن لمتابعة كاميرات المراقبة في صالة المغادرة، وعند تلك اللحظة انهارت الوالدة تماماً عند رؤيتها امرأة ترتدي النقاب ولكنها ترتدي شيئاً تعرفه جيداً، وهو حذاؤها الذي اشترته لها من قبل، بالاضافة لتعرفها على طريقة مشيتها، وعندها عرفت ان ابنتها قد سافرت وهي منقبة، وهنا يصمت الليثي قليلاً وهو يحاول أن يتماسك قليلاً، ويقول لي بكل حسرة إن تسجيلات المراقبة أظهرت أن ابنتي قد مرت بجواري وانا لم اعرفها لأنها كانت ترتدي النقاب، وتحسرت على اني لم استصحب والدتها معي في تلك اللحظة إذ كانت ستتعرف عليها على الفور.
«8»
ويمضي الليثي قائلاً إن المعلومات التي أصبحت ترد لهم كلها متضاربة، فهم لا يعلمون بأي جواز خرجت من المطار، وقال: «يمكن أن تكون خرجت بجوازها وكله وارد، ولا نعلم بأي جواز خرجت من البلاد»، ويشير إلى تولي جهاز الأمن هذه المسألة، وينهي الليثي لقاءه بكلمات موجزات بأنه متوجه لتركيا للبحث عنها، ويقول إن أملهم كبير في الله. وعند هذه النقطة تركته مصحوباً بدعواتي وأمنياتي بأن يجد ابنته، وتبقى الكثير من الأسئلة العالقة بذهني، والتي من بينها من يجند فتياتنا لداعش؟ ومن يسهل لهن خروجهن؟ وكيف؟ وإلى متى سنسمع عن حالات انضمام مشابهة؟ ويبدو أنها للأسف أسئلة ليست للإجابة!!
الانتباهة