الحزب الشيوعي الصيني لم ينشأ في يثرب ولم يؤسسه أحفاد من بايعوا رسول الله في عام الوفود،،
هذا الموضوع قديمٌ مُتجدَّد يتعلقُ بما ظلننا ندعو له من ضرورة عدم إقحام “الدين” بطريقة غير سليمة في قضايا “السياسة”, وكذلك يرتبطُ بقضية توزيع الإتهامات المجانية و صكوك الخيانة على “الآخر” المُختلِفْ مما يثير الكثير من التساؤلات حول المواقف المتناقضة التي ينطوي عليها ذلك الإقحام وتلك الإتهامات.
ويتمثلُ أبرز أوجه ذلك الإقحام في تحويل المنافسة بين الأحزاب السياسية إلى صراع بين معسكري السماء والأرض, الإيمان والكفر, تمهيداً لطرد الآخر من دائرة الملة بما يؤدي إلى حصاره و “تكفيره” دون هوادة, ومن الناحية الأخرى فإنَّ رمي الآخر بإتهامات العمالة يهدفُ إلى نزع غطاء “الوطنية” عن المُختلفين بحيث يسهلُ تصنيفهم في خانة أعداء الشعب والوطن.
قد برع الأخوان المسلمون في استخدام تلك الأسلحة ضد خصومهم السياسيين عبر استغلال العاطفة الدينية والوطنية لدى عامة الناس, بل وحتى بعض فئات المثقفين, ولكن ذلك الإستخدام لم يخلُ من التناقضات التي تكشف أنَّه كان إستخداماً إنتهازياً يهدف لتحقيق الأهداف السياسية بغير وسائلها المعروفة والمشروعة.
وتبرزُ في هذا الإطار قضية “حل الحزب الشيوعي” في ستينيات القرن الماضي والتي مثل الأخوان المسلمون فيها رأس الرمح مُستغلين حديثٍا لطالب بمعهد التربية أساء فيه لبيت الرسول الكريم فقادوا حملة شعواء مستصحبين معهم رموزاُ من الحزبين الكبيرين حيث تم طرد النواب الشيوعيين من البرلمان ليس لمواقف سياسية مجردة ولكنهم واجهوا تهمًا وجرائم في حق المبادئ والمقدسات الإسلامية.
حينها وقف المرحوم الدكتور حسن الترابي في قبة البرلمان مدافعاً عن قرار الحل قائلاً إنَّ ( الحزب الشيوعي ينقصه الإيمان بالله، والإخلاص للوطن، وتنفيذ الديمقراطية، وحسن الأخلاق الاجتماعية، والحرص على وحدة الوطن). إنتهى
ولم يكتف بذلك ولكنه عدَّ تلك الخطوة إنجازاً يُحسب لجماعته و (إنتصاراً للإسلام وللمسلمين) كما قال وعندما سُئل بعد أكثر من ثلاثة عقود عن مشاركتهم في حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان وما إذا كان يقبل بالشيوعيين في الممارسة الديمقراطية الثالثة قال : ( ذلك يتوقف على طبيعة الحزب، أحسبه أنه مازال يقوم على مناقضة كاملة لكل أصول الدين وذلك خطر على الدين وعلى الديمقراطية ). إنتهى
ولكن ذات الرجل الذي قال أنَّ الحزب الشيوعي “ينقصه الإيمان بالله” و يقوم على “مناقضة كاملة لكل أصول الدين” جاء بعد أن إختلف مع حوارييه في السلطة ليقول أنّ ( الحزب الشيوعي الآن أصبح الحزب الأقرب إلينا ) وأنَّ الأفكار والمبادئ ( أوشكت أن تتطابق بين الطرفين في جوانب وقضايا تتعلق بمفاهيم الحكم والحريات واللامركزية ونبذ الشمولية المطلقة ). إنتهى
يعلم الجميع أنَّ أفكار الحزب الشيوعي لم تتغير خصوصاُ فيما يتعلق بقضية علاقة الدين بالدولة والسياسة, وهى نفس المبادىء التي قاد ضدَّها الترابي معركته التي أدت لحل الحزب, وبالتالي فإنَّ ذلك يقودنا إلى أنّ طبيعة وأسباب الخلاف لم تكن في يومٍ من الأيام “دينية” بل كانت “سياسية” ولكنها ألبست رداء الدين حتى يسهل إبعاد الآخر من دائرة الإسلام و بالتالي الإجهاز عليه بسهولة.
ذات الممارسة والتوجه حكمت علاقة تلاميذ الترابي مع الشيوعيين والمعارضين, فقد ظل الخطاب الحكومي يتعامل مع هذه القضية بوصفها صراعاً بين الدولة “الرسالية الإيمانية” ممثلة في حزب المؤتمر الوطني, والمعارضة “ناقصة الإيمان” التي يقف على رأسها الشيوعيين, أى أنه صراعٌ بين فسطاطي الكفر والإيمان.
ولكن الغريب في الأمر أنَّ ذات المؤتمر الوطني يرتبط بعلاقة “توأمة” مع الحزب الشيوعي الصيني, وهو كما قلت في مناسبة سابقة حزبٌ لم ينشأ في يثرب ولم يكن مؤسسوه من أحفاد الرجال الذين بايعوا الرسول (ص) في عام الوفود, بل هو حزبٌ يستبعدُ الدين كلياً من دائرة السياسة والدولة, وتنبني أفكاره على النظرية الماركسية التي طبقت على الواقع الصيني وفقاً لرؤية الزعيم “ماو تسي تونق”.
ومع ذلك فإنَّ صحف الخرطوم نقلت الأسبوع الماضي تصريحات لوزير الدولة للإعلام ياسر يوسف خلال لقاء الوفد الإعلامي الزائر للصين مع مسؤول “المدرسة الحزبية” للجنة الحزب الشيوعي الصيني بمقاطعة جيانغسو قال فيها : ( إننا نشيد باسم حزب المؤتمر الوطني بالحزب الشيوعي الصيني بجميع مقاطعات الصين، وبدعمه للعلاقات الاستراتيجية للتعاون البنّاء بين البلدين ) كما أنه أعرب ( عن سعادته لدور الصين قيادة وحزباً في دعم نهضة السودان، وأشار للاتفاقية الموقعة بين الحزبين لتبادل المعرفة منذ العام 2003).
لا بأس أن يتعاون الحزبان وفقاً للقواعد التي تحكمها مبادىء السياسة والمصلحة المُشتركة فذلك أمرٌ مشروع ولا غضاضة فيه, ولكن الخطورة تكمن في أنَّ ذات الحزب لا يلتزم بهذه المبادىء و القواعد في إطار تعامله مع المعارضة السياسية حيث يرميها بالوقوع في شراك الحزب الشيوعي السوداني الذي يُحارب الإسلام و يسعى لإسقاط الدولة الرسالية !
هذا ما كان من أمر إقحام الدين في الصراع السياسي بغرض التكفير, أمّا فيما يخص رمى الآخر المُختلف بتهم العمالة والإرتزاق و الإرتهان للأجنبي, وهى التهم التي تتردد كل يوم على ألسنة المسؤولين في الحكومة فإنَّ فيها من التناقض ما يُشابه مثيلتها التي تحدثنا عنها في السطور السابقة.
يعلمُ الجميع أن الأخوان المسلمين كانوا ضمن قوى المعارضة أبَّان فترة حكم النظام المايوي, حيث كانوا جزءاً من “الجبهة الوطنية” التي جمعتهم إلى جانب الحزب الإتحادي وحزب الأمة, وقد كانت قيادات الأخوان تتجول بين “فنادق” أثيوبيا وليبيا ولندن والسعودية, تسعى لطلب “الدعم المالي” وتقوم بتدريب كوادرها في معسكرات القتال في “الكفرة” وهو الأمر الذي إنتهى بالحركة العسكرية في يوليو 1976.
حينها لم نسمع فقهاء الأخوان يتحدثون عن “معارضة الفنادق” و العمالة والخيانة والإرتهان للأجنبي , وهى التهم التي توجه كل يوم لمعارضي الإنقاذ, مع أنَّ الثقل الأساسي للمعارضة السياسية في الوقت الراهن موجود داخل السودان وليس في طرابلس أو لندن كما كان في فترة مايو, مما يُظهر مدى التناقض في خطاب الجماعة.
ليس هذا فحسب بل أنَّ السلطة الحاكمة في إطار تضييقها على منظمات المُجتمع المدني قامت في الأعوام الأخيرة بإغلاق العديد من المراكز الثقافية ( منها مركز الدراسات السودانية ومركز الخاتم عدلان) بحُجة أنها تتلقى دعماً مالياً خارجياً وبأنّ لها إرتباطات بدوائر المخابرات العالمية كما قال نائب الرئيس الأسبق الأستاذ على عثمان محمد طه في حوار تلفزيوني مع البروفيسور على محمد شمو.
ظللنا نقول أنَّ تلقي الأموال من الخارج لا يُمثل في حد ذاته تهمة أو خيانة أو عمالة وأنَّ الأمر الفيصل في موضوع التمويل الخارجي لهذه المراكز والمُنظمات يتمثل في النظر في أوجه صرفها لتلك الأموال وهو دورٌ رقابيٌ لا شكَّ أنَّ السُّلطات المعنيَّة ظلت تقوم به كلَّ عام بمراجعتها للميزانيات السنوية لتلك المراكز.
شاهدنا على ذلك أنَّ جميع المنظمات التي تتبع للأخوان المسلمين بما فيها منظمة الدعوة و الوكالة الإسلامية للإغاثة وشباب البناء وغيرها إعتمدت في الأساس على الدعم المالي الخارجي وظلت تمارس نشاطها لعشرات السنين دون أن تتعرض لها سلطة حاكمة أو توقف نشاطها بحجة أنها تخدم مصالح خارجية.
ليس هذا فحسب بل أنّ لغطاً كبيراً كان قد دار حول المنحة المقدمة من الحزب الشيوعي الصيني لبناء برج ضخم كمقر لحزب المؤتمر الوطني, بل أنَّ هذا الأخير إعترف في العام 2015 بأنه تسلم من السفير الصيني بالخرطوم منحة مقدمة من إدارة العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي الصيني عبارة عن عدد 80 جهاز كمبيوتر بملحقاتها. فتأمل !
من الواضح أنَّ قضية إغلاق تلك المراكز لا تتعلق بالعمالة أو الإرتباط بأجهزة مخابرات ودول خارجية أو بمصادر تمويل تلك المراكز, فهاهو الحزب الحاكم يتلقى منحاً ومساعدات وهدايا من أحزاب خارجية بل أنَّ الصحيح هو أن نشاطها قد سبباً إزعاجاً للسلطة فقررت إغلاقها.
لكل هذا نخلص إلى أنَّ إقحام الدين في المنافسة الحزبية ورمي المُختلفين بتهم العمالة والإرتزاق والخيانة الوطنية ليس القصد منه خدمة الإسلام أو السودان, بل يستخدم من أجل تحقيق مصالح سياسية حزبية لا غير.
ولا حول ولا قوة إلا بالله
بابكر فيصل بابكر ،،