الجمعة، 29 مايو 2015

فضيحة جديدة للفيفا حول فوز ألمانيا بمونديال 2014


أثناء انعقاد “الكونجرس” للاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” لإجراء انتخابات على مقعد الرئيس، وسط موجات غضب بسبب قضايا الفساد والقبض على بعض مسئولي الاتحاد بسبب وجود شبهات حولهم، تم الكشف على فضيحة جديدة.
قبل منافشة الملفات المعروضة أمام أعضاء “الفيفا” والتصويت عليها إلكترونيا، تم إجراء تصويت تجريبي بين الوفود المشاركة للتأكد من سلامة أجهزة التصويت.
جاء السؤال في التصويت التجريبي بسيطا للغاية، وكان عن “هل فازت ألمانيا بكأس العالم 2014؟”، والفضيحة أن 5% من الوفود أجابوا بـ”لا”.
ويبدوا أن هناك مسئولين كرة قدم في بعض دول العالم لا علاقة لهم باللعبة، فأي مهتم بكرة القدم يدرك أن ألمانيا فاز على الأرجنتين في المباراة النهائية لكأس العالم في البرازيل 2014 بنتيجة (1-0).
صدي الملاعب

السُّودان: السُّلطة والتُراث (الآن بالمكتبات)



السُّودان: السُّلطة والتُراث (الآن بالمكتبات)

المؤلف: أحمد إبراهيم أبوشوك
الناشر: مركز عبد الكريم الثقافي بأمدرمان
تاريخ النشر: يناير 2015م
*********************************

مقدمة
تمثل هذه الإصدارة الجزء الخامس من سلسلة "السُّودان: السُّلطة والتُراث"، قبل أن يكون واقع دولة السُّودان واقعاً يحكي عن قصة دولتين في الشمال والجنوب. وتُعزى أهم أسباب هذا الانفصال إلى الفرضية التي أطلقها الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، عندما وصف السُّودانيين، قائلاً: "ولا زلنا دون مستوى تعيين حدود الانتماء القومي، والعضوي، والاستراتيجي للشخصية السُّودانية، الممتدة والمتأثرة لأبعد من جغرافيتنا السياسية المحدودة. فتتغلب في كل مرحلة نزعات أحادية الجانب، عربياً أو إفريقياً، فنعيش صراعات الشخصية، وتعدد الانتماء، عوضاً عن الاستجابة لشروط المكان السُّوداني، المتفاعل مع الجميع من حوله، وتركيز هذا التفاعل في بناء وحدته الذاتية، التي تتخذ من حوض النيل والقرن الإفريقي خلفية لها." فغياب هذه الرؤى في مفكرة السياسي السُّوداني تجسدت في تقويض مفهوم الدولة الوطنية العادلة، الذي ينبغي أن يقوم على استراتيجيات المصالح المشتركة داخل السُّودان، وفي فضاءات جواره العربي والإفريقي، ومتطلبات تواصله العالمي غرباً وشرقاً حسب تحديات العولمة الوضعية المعاصرة والاستجابات التي يقتضيها واقع القطر النامي بثقافاته المتعددة وأعراقه المتباينة. 

ارتبط غياب هذه الرؤية الاستراتيجية بانشغال الساسة السُّودانيين بقضية "مَنْ يحكم السُّودان؟" بدلاً عن أن يصوبوا جهودهم المهدرة تجاه السؤال المفقود منذ أن نال السودان استقلاله عام 1956م: "كيف يُحكم السُّودان؟" ونلحظ أن كل الإجابات عن هذا السؤال تُختزل في قضية السُّلطة وأنصبة القائمين على أمرها. وحتى اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005م، التي كان البعض يظن أنها مخرجاً آمناً من نزاعات أهل السُّودان، وتحقيقاً لوحدتهم الشاملة، وُلِدت مثقلة بمشكلة توزيع أنصبة السُّلطة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، الأمر الذي جعل الفترة الانتقالية تفقد مصداقيتها، وتختم مطافها بتقرير مصير جنوب السُّودان لصالح خيار الانفصال؛ بدلاً عن خيار الوحدة الطوعية. وبالرغم من حدوث الانفصال لم يع الحاكمون والمعارضون في الخرطوم وخارجها دروس الانفصال وعبره، ولم يسعوا إلى تقديم مقترحات عملية جادة تفضي إلى طرح حلول موضوعية، يتوافق عليها أهل السُّودان. فلاشك أن هذا العجز السياسي قد قاد إلى مزيد من التفتت والتشظي في البنية الحزبية الحاكمة والمعارضة، كما هو الحال في الفصائل التي تقود الصراع المسلح ضد حكومة الخرطوم. ومن جانب آخر ظهرت بعض حركات المجتمع المدني التي ترنو إلى طرح حلول عملية خارج منظومتي الأحزاب الحاكمة والمعارضة، ونذكر منها على سبيل المثال الحركة الوطنية للتغيير التي انطلق بيانها التأسيسي من قراءة تجريبية لواقع السُّودان المتردي، مفادها أنُّه: "إذا كانت أهدافنا الصغيرة والكبيرة قد تساقطت، وإذا كانت مؤسساتنا الاقتصادية والسياسية قد تآكلت، وإذا كانت علاقاتنا الداخلية والخارجية قد تمزقت، أفلا يجب علينا أن نعيد النظر في مجمل أوضاعنا الوطنية، فنضع أهدافاً سياسيةً جديدةً، ونرتب أوضاعنا الدستورية والاقتصادية ترتيباً آخر؟ ثم إذا كان نظام الإنقاذ قد فقد صلاحيته (بشهادة أهله)، وصار يترنح، كما تترنح القوى السياسية المتحالفة معه، أو الساعية لوراثته، فماذا نحن منتظرون؟ أما آن لنا أن نبدأ في صناعة مستقبل بديل، فنبلور منظومة من المبادئ الجديدة ينعقد عليها إجماعنا، ونصمم في ضوئها مشروعاً وطنياً لمرحلة ما بعد انفصال الجنوب، ولما بعد نظام الإنقاذ، ولما بعد النفط؟
لا يناقش الجزء الأول (السلطة) من هذا الكتاب العناوين العريضة والمهمة التي جاءت في البيان التأسيسي للحركة الوطنية للتغيير، بل يقدم قراءات تاريخية متفرقة عن مشكلة السُّلطة في السُّودان، بعرض قضايا مختارة من إفرازات الثورة المهدية، والحركة الوطنية والاستقلال، وما بعد الاستقلال، ثم بعد ذلك يعرض بعض المشكلات السياسية التي تعكس طرفاً من واقع الأزمة الآنية في السُّودان. إذ يتناول المقال الأول في هذا الجزء منهجية التشريع المهدوي التي شكَّلت الأرضية الفكرية والسياسية للثورة المهدية، ومنطلقاتها الأيديولوجية؛ ويتطرَّق المقال الثاني إلى الاستراتيجية العسكرية للإمام محمد أحمد المهدي في السُّودان (1881-1885م)، مناقشاً مرتكزاتها ومتغيراتها. ولا جدال أنَّ هذين المقالين يعرضان العقيدة الاستراتيجية للثورة المهدية، ولطائفة الأنصار التي حظيت برعاية السيد عبد الرحمن المهدي (1885-1959م)، وشكَّلت أيضاً القاعدة الجماهيرية لحركة الاستقلاليين التي أسست حزب الأمة عام 1945م. ويقدم المقال الثالث الأستاذ عبد الرحمن علي طه، نموذجاً لطلائع الاستقلاليين الذين انضموا إلى حزب الأمة، ونفذوا برنامجه السياسي على أرض الواقع، وذلك من خلال عرضٍ تحليلي للكتاب الذي أنجزته ابنته البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه، بعنوان: أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه: بين التعليم والسياسة وأربجي. ويأتي المقال الرابع في شكل قراءة تحليلية للإدارة الاهلية التي تُعدُّ من الركائز الإدارية المحلية التي طوَّرها المستعمر، وألغتها القوى الحديثة عام 1970م، محتجةً بأنها جزء من التركة الاستعمارية التي يجب تصفيتها، دون تقديم بديلٍ مناسبٍ. أما المقال الخامس فتدور حواشيه حول السؤال المحوري الذي طرحه الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان: "مَنْ المسؤول عن انفصال جنوب السُّودان؟" وأجاب عنه في تسع مقالاتٍ، نُشرت في صحيفة الأحداث وصحيفة سودانايل الإلكترونية. ونعقب هذا المقال بمقال سادس، يعرض ويحلل مفردات الكتاب الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، لمجموعة من الباحثين، بعنوان: انفصال جنوب السُّودان: المخاطر والفرص. أما المقالات الخمس الأخيرة فتعكس عناوينها طرفاً من الأزمة السياسية الآنية في السُّودان: "عفواً سعادة الرئيس! مَنْ المسؤول من تسييس الخدمة المدينة؟"؛ "السُّلطة ونصحاء السُّلطان: غازي صلاح الدين نموذجاً"؛ "الدكتور غازي صلاح الدين ونداء السُّودان: المسوغات، والتحديات، والفرص"؛ "الوزير السُّوداني: تجربة البؤس وبؤس التجربة"؛ "معذبو الأرض في السُّودان ينتظرون حلاً!". 
ويتناول الجزء الثاني (التُراث) من هذا الكتاب بعض القضايا ذات الصلة بتراث أهل السُّودان في معناه العام. ويأتي في مقدمتها مقال بعنوان: "المؤرخ نعوم شقير في الميزان (بمناسبة مرور تسعة أعوام على رحيل البروفيسور أبوسليم)"، إقراراً بفضل مؤلفه العُمدة "تاريخ السُّودان وجغرافيته"، الذي يجمع بين السياسي والتُراثي في السُّودان، ولكننا رجَّحنا قيمته التُراثية على السياسية، فوضعناه مدخلاً لهذا الجزء الخاص بالتُراث. ويقدم المقال الثاني شهادة علمية عن الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن، بمناسبة حصوله على جائزة العز بن عبد السَّلام للثقافة والعلوم والآداب العربيَّة والإسلاميَّة والإفريقيَّة، للعام 2014م. ويلي المقال الأول في القيمة المصدرية المقال الثالث الذي يعرض محتويات الكتاب الذي أعدَّه الدكتور سمير محمد عبيد نقد، بعنوان: "معجم الأمثال السُّودانية المقارنة"، ويبرز أهميته العلمية. ويعقب هذه المقالات الثلاث، المقال الرابع الذي يراجع ويحلل مفردات الكتاب الذي ألفه البروفيسور حسن بله الأمين، بعنوان: "أطباء السُّودان الحفاة: قصة نجاح بهرت العالم"، موثقاً لتاريخ مدرسة القابلات بأمدرمان، من حيث النشأة، والتطور، وإمكانية الاقتداء بتجربتها حاضراً ومستقبلاً. ويرتبط المقال الخامس بأدب الرحلات؛ لأنه يوثق لطريق أمدرمان-القبولاب- دنقلا، متناولاً نشأته وتطوره، وذكريات المسافرين على طوله ذهاباً وإياباً. وأخيراً، نختم هذا الجزء بقراءة قلمية في أنثروبولوجيا العُرس في منطقة مروي الكبرى، مفككةً لمفردات النصَّ الشعري الذي انتجه الأستاذ السر عثمان الطيب في سبعينيات القرن العشرين، بعنوان "بت البلد"، التي كانت تجسد طرفاً من مآسي أولئك الذين تاهوا في لجج علاقاتهم العذرية، وتكسَّرت أشرعه مراكب عشقهم بين أمواج الريف الهوجاء، المحكومة بنظرة أهلها الذكورية، الهاضمة لحقوق القوارير. 
وفي الختام يطيب ليَّ أن أسدى الشكر أجزله والعرفان أوفاه إلى كل الذين قرأوا بعضاً من نصوص هذا الكتاب في مراحل مختلفة، وقدموا إرشادات وتعليقات مفيدة، أسهمت في استواء النص على سوقه، عله يعجب القراء والنقاد. ومن هؤلاء النفر الطيب، أذكر المثقف الموسوعي الدكتور الصيدلي أبو الحسن الشاذلي مصطفى (قطر)، والأستاذ محمد عبد الحليم وداعة الله (قطر)- الذي راجع نصوص هذا الكتاب بعناية فائقة وتدقيق أشمل، والأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك (قطر)، والمهندس عبد الوهاب سلفاب (قطر)، والأستاذ هشام عثمان مكي (السعودية) الذي أمدني بنسخة إلكترونيةٍ مصورةٍ من كتاب شريان الشمال. والشكر والتقدير أجلَّه إلى الأستاذ سهيل ناصر الذي أشرف على الأعداد الفني لهذا الكتاب، وإلى مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان، وراعيه الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، الذي ظل لأكثر من عقدين من الزمان يشرف بنفسه على إصدارات المركز، ويراجع محتوياتها قبل النشر، ويعلِّق عليها، ويدعم طباعتها ونشرها وتوزيعها مادياً ومعنوياً، إلى أن بلغت أكثر من ثلاثمئة عنواناً، جميعها تصب في أوعية التنوير المعرفي في السودان، آملين أن يأتي حصادها بغدٍ مشرقٍ، يُخرج السودان من ظلومات الاحتراب والمكايدات السياسية إلى نور السلم المستدام والتنمية المتوازية، وينقل النخبة الحاكمة والمعارضة من دوائر أطماعها القطاعية والشخصية الضيِّقة إلى فضاءات المصلحة العامة؛ لتستوي استراتيجيات الحكم والإدارة العامة على سوقها، ويستقيم تنفيذها على صعيد الواقع، بفضل عطاء الأكفاء الحادبين على مصلحة الوطن دون رياء أو شُهرة.


• التوزيع: مركز عبد الكريم الثقافي بأمدرمان

تجربة في التعليم (بخت الرضا)، 1934-1950م

تجربة في التعليم (بخت الرضا)، 1934-1950م
تاليف ف.ل. قريفث 
ترجمة البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه

مراجعة
أحمد إبراهيم أبوشوك
أهدت ليَّ البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه نسخة من ترجمتها العربية لكتاب ف.ل. قريفث الموسوم بـ " An Experiment in Education: An Account of the Attempts to Improve the Lower Stages of Boys' Education in the Moslem Anglo-Egyptian Sudan, 1930-1950.، الذي نشرته مطابع لونقمان (Longmans) عام 1953م. وجاء عنوان الترجمة العربية: "تجربة في التعليم: رواية لمحاولات تحسين تعليم البنين في المراحل الأولية بالسودان الإنجليزي - المصري المسلم 1934 - 1950". استهلتها فدوى بمقدمة ضافية عن نشأة معهد التربية ببخت الرضا، ومراحل تطوره إلى أن أضحت تجربته "تجربة ثابتة، وراسخة، وناضجة، لم تعقبها تجربة جادة مدروسة طيلة سنوات الاستقلال، وحتى يومنا هذا؛ بل شهد نظامنا التعليمي تدميراً كاملاً." وصلت فدوى إلى هذه النتيجة في ضوء الأهداف التربوية العالمية التي استندت إليها بخت الرضا، ووظفتها في سبيل الارتقاء بإعمال الفكر، ونبذ الاستظهار الذي يُحجِّم ملكات التلاميذ الإبداعية، فضلاً عن اهتمامها بالتربية الخُلقية، والإعداد الوطني، وتطوير مناهج التدريس وفق أسس عالمية وإقليمية تناسب احتياجات التعليم في السودان آنذاك. 
يتكون الكتاب من 238 صفحة من القطع المتوسط، مقسمة إلى مقدمة المترجمة، وتمهيد (حقائق عن السودان)، وستة عشر فصلاً، وملحق مساعد للمدرس، وصور وخرائط توضيحية. والكتاب في مجمله يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسة. يقدم الجزء الأول منها صورة ذهنية حيَّة عن عوامل النجاح والفشل التي صاحبت المرحلة الأولى من إصلاح التعليم الأولي للبنين في السودان؛ ويتناول الجزء الثاني مراحل تطور معهد التربية ببخت الرضا، ومهامه وعلاقاته بالمؤسسات التعليمية والمجتمع المدني السوداني؛ ويركِّز الجزء الثالث على التجارب والأنشطة التطبيقية التي كانت تمارس في أروقة المعهد والمؤسسات التعليمية التابعة له. وفي الفصل الأخير من هذا الجزء، يناقش قريفث تأثير النمط التعليمي الغربي في المجتمع السوداني، وانعكاساته الموجبة والسالبة. 
صدرت النسخة المترجمة للكتاب عن مطبعة جامعة الخرطوم للنشر في 2014م، وصمم غلافها الخارجي البروفيسور أزهري مصطفى صادق، واضعاً على واجهته الأمامية صورة يتوسطها مستر قريفث، وعلى يمينه الأستاذ عبد الرحمن علي طه، وعلى شماله الأستاذ نصر الحاج علي. نحاول في هذه المراجعة الوقوف عند ثلاث قضايا مهمة، وردت في ثنايا هذا السفر القيم في موضوعه، وكذلك في مقدمة المترجمة؛ إلا أنها لا تغطي كل فصول الكتاب المتنوعة، بل نحسبها تُحفِّز القارئ على اقتناء نسخة من التجربة التي أضحت في ذمة التاريخ.

أولاً: نشأة بخت الرضا وتطورها
أوضح الكتاب أنَّ فكرة تأسيس بخت الرضا وردت في المذكرة التي أعدها مستر إسكوت، مفتش عام التعليم آنذاك، عام 1932م، مبيناً فيها جملة من المقترحات العامة لإصلاح التعليم في السودان، ومنتقداً نظام التلقين والحفظ الموروث من الخلاوى القرآنية، ومقترحاً إنشاء معهد لتدريب معلمي المدارس الأولية، وكذلك مدرسة زراعية لتعليم التلاميذ وسائل الزراعة الحديثة، مع الاهتمام بتعليم الكبار عبر المكتبات العامة والعروض السينمائية المتجولة. ولتنفيذ هذه المقترحات شكَّلت حكومة السودان لجنة برئاسة كبلى ونتر مدير مصلحة المعارف، وعضوية هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري، وفاس وماكريقر، وعينت قريفث سكرتيراً للجنة. وكان من مهام اللجنة الأساسية إنشاء معهد لتدريب المعلمين بمنطقة ريفية، يهدف إلى إعداد المناهج التدريسية، وتدريب المعلمين على طرائق التدريس الحديثة. وبعد بحث وتمحيص لازمين وقع الاختيار على قطعة أرض شمال مدينة الدويم بالنيل الأبيض، أطلق عليها اسم بخت الرضا، تيمناً باسم إمراة عجوز كانت تسكن المنطقة، وتقوم بحراسة مطامير (مخازن) الذرة (العيش) الكائنة في فضاءاتها الزراعية. وبعد الفراغ من تجهيز المباني الأساسية، تمَّ نقل مدرسة العرفاء (مدرسة إعداد المعلمين) من كلية غوردون بالخرطوم إلى معهد بخت الرضا، الذي تبلورت مهامه الوظيفية في تحقيق الأهداف الآتية:
• تدريب معلمي المدارس الأولية.
• وضع المقررات والكتب المدرسية للتلاميذ، والمراجع الإرشادية للمعلمين.
• تنظيم دورات لتأهيل المعلمين الذين لم يتدربوا من قبل ببخت الرضا، من أجل تحسين قدراتهم المعرفية وتمكينهم من مواكبة طرائق التدريس الحديثة.
• نشر التعليم الأولي في الريف، ووضع المناهج والكتب التي تخدم أهدافه.
بعد عامين من التأسيس، توسع معهد بخت الرضا، وأضحى يضم مدرسة أولية بفصول متعددة لتجريب المناهج الجديدة، وتدريب معلمي المدارس الأولية المختارين من كل مناطق السودان، وكذلك مدرسة وسطى بالدويم لتجريب المناهج وتدريب معلمي المرحلة الوسطى. ويضاف إلى ذلك تجربة تعليم الكبار التي ابتدرها المعهد بقرية أم جر الواقعة على مشارف مدينة الدويم. وأنشئت للمعهد ثلاثة فروع رئيسة في كل من شندي، والدلنج، ومريدي.

ثانياً: المناهج التعليمية وتدريب المعلمين
اهتم الكتاب بثلاث قضايا مفصلية في التعليم العام، تتمثل في إعداد المناهج، وتدريب المعلمين، والتفتيش الميداني. فكانت فلسفة إعداد المناهج تقوم على ثنائية، تزاوج بين النظريات التعليمية والتربوية العالمية والاحتياجات المحلية في السودان؛ ولذلك وصفها الدكتور عبد الله علي إبراهيم بأنها خلاسية، تجمع بين المعارف المستوردة والاحتياجات المحلية وفق نظرة المستعمر. لكن الناظر في ثنايا تجربة بخت الرضا التي عرضها قريفث يلحظ أنَّ هذه الخلاسية كانت قائمة على مبررات موضوعية، استند إطارها العام إلى نظريات عالمية في التربية والتعليم، واستقام بعدها المحلى باصطحاب متطلبات البيئة السودانية، ومراعاة القيم الاجتماعية والدينية، فضلاً عن احتياجات الحكومة الاستعمارية التي كانت تمثل المخدم الأول في السودان. أما تدريب المعلمين فقد كان منشطاً محورياً من مناشط بخت الرضا؛ لأن المعلم المؤهل من وجهة نظر القائمين على أمر المعهد يمثل شفرة نجاح التجربة؛ ولذلك أشارت فدوى لأسماء نخبة من الأساتذة المتميزين الذين كان لهم دور مشهود في تطوير معهد بخت الرضا، والمؤسسات التعليمية التي عملوا فيها فيما بعد، ونذكر منهم: عبد الرحمن علي طه، ومكي عباس، ونصر الحاج علي، وعبد الله الطيب، وسر الختم الخليفة، وأحمد الطيب أحمد، وعوض ساتي، وجمال محمد أحمد. أما التفتيش الدوري فكان يشكل الحلقة الثالثة المكملة للحلقتين الآخرتين؛ وذلك بفضل الرقابة اللصيقة والتوجيه المباشر لتطبيق المناهج التعليمية، وفحص فاعلية طرائق التدريس وتثقيفها ميدانياً، أو عن طريق الدورات التدريبية التي كانت تعقد بانتظام لمعلمي المرحلتين الأولية والوسطى ببخت الرضا، أو المعاهد التابعة لها في شندي، والدلنج، ومريدي. وحصاد ذلك، كما ترى فدوى، أن تجربة قريفث التأسيسية كانت تمثل مساهمة فارقة في تاريخ بخت الرضا التعليمي، ودورها في دفع مسار التربية والتعليم في السودان.



ثالثاً: معهد بخت الرضا والرأي الآخر
تطرقت الدكتورة فدوى في مقدمتها إلى الانتقادات التي واجهها معهد بخت الرضا منذ تاريخ تأسيسه في الدويم عام 1934م. ويأتي في مقدمة تلك الانتقادات موقف بعض المتعلمين من فكرة انتقال المعهد من الخرطوم إلى الدويم، تلك النقلة التي وصفوها بأنها خطوة متخلفة، ولا تلبي تطلعات السودان المستقبلية، بل أنها تبعد التلاميذ من دوائر الإشعاع المعرفي في الخرطوم، ليكونوا معزولين في بادية رضا القاحلة فكراً ومدنيةً. 
ويلي ذلك الانتقاد القائم على تقابلية البادية والحضر، انتقاد آخر يشكك في فلسفة المعهد التعليمية، التي وصفها بعض المتعلمين بأنها تهدف إلى القضاء على نظام تعليم الخلاوى القرآنية التقليدي، وإدخال النظم التعليمية الغربية المفسدة لأخلاق التلاميذ. ويبدو أن الدكتور عبد الله الطيب قد انطلق من هذه التهمة، عندما وصف التعليم في معهد بخت بأنه تعليم بلا "بركة". 
أما مبررات إلغاء المعهد فتبناها وروج لها الدكتور محي الدين صابر، وزير التربية والتعليم (1969-1972م) في حكومة مايو، الذي وصف الجهود التعليمية التي سبقت الثورة التعليمية التي افترعها بأنها كانت تهدف إلى تدمير الفكر السوداني. وبرر فكرة إنشاء المعهد بأنها كانت استجابة سالبة لإضراب الموظفين والخريجين عام 1931، الذي طالب بزيادة المرتبات وتحسين الأوضاع المعيشية. ثم أوضح أنَّ الإنجليز فطنوا لظاهرة الاضرابات المطلبية، التي عكست وعي المتعلمين بالظلم وقضايا الديمقراطية والحرية، وبموجب ذلك فكروا في تأسيس معهد بخت الرضا الريفي، لأبعاد التلاميذ من الخرطوم، وربطهم بحياة الريف، بعيداً عن صخب المدن وتطلعاتها السياسية. بَيْدَ أنَّ فدوى انتقدت مبررات صابر، ووصفتها بعدم الموضوعية، محتجةً بأن "بخت الرضا لم تلغ كلية غردون التي استمرت في تخريج الأفندية، وإنما قامت كبديل لمدرسة العرفاء وانتصاراً لدعاة الإصلاح من الإنجليز." فضلاً عن أنها كانت تدرس التلاميذ "نظرياً وعملياً الممارسة الديمقراطية بكل أبعادها. ولم يُعرف عن بخت الرضا الترويج لفكر أحادي، أو شمولي، أو استبدادي." وهنا إشارة جارحة في موقف محي الدين صابر الذي ساند حكومة مايو الانقلابية-العسكري، بالرغم من أنه كان نائباً برلمانياً منتخباً في الجمعية التأسيسية عن الحزب الاتحادي الديمقراطي في دائرة السكوت والمحس.
وأخيراً يأتي نقد الدكتور عبد الله على إبراهيم الذي ألف كتاباً في هذا الشأن بعنوان "بخت الرضا: الاستعمار والتعليم"، وذكر في مقدمته: "لم نخرج بهذا الكتاب لهدم بخت الرضا كخبرة في التربية السودانية، وإنما لهدم هالة القداسة التي جعلتها وثناً ثقافياً، سدنته غلاظ شداد. وهذه جاهلية حالت، وستحول، بيننا وبين فهمها كخبرة تربوية سودانية، كما يدعو سدنتها. وهي خبرة جرت دراستها عند نقاد التعليم الاستعماري كنص "هجين أو خلاسي". وتنامى الاهتمام بمثل هذا النص في المباحث بفضل مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار التي أطلقها من عقالها المفكر الراشد الوسيم المرحوم إدورد سعيد. ويعنون بـ "النص الخلاسي" أن المستعمرة، خلافاً لقول قادة الحركة الوطنية، لم تنقسم إلى وطنيين خلص وإنجليز خلص على طول الخط. بل اختلط الاثنان اختلاطاً تعمينا عنه عقيدة الخلوص الوطنية من "أوشاب" الاستعمار. بل هناك من يقول إن هذه الخلطة بلغت الغاية عند الوطنيين أنفسهم. وتريد هذه المدرسة أن تقف على هذه "الأوشاب" بدراسة النصوص الخلاسية مثل رضا. فليست رضا كما ظنها الوطنيون الأبكار مجرد "دنس استعماري" نتبرأ منه. فهي طاقة وطنية كما حاولنا بيان ذلك في فصول مثل "دمع العين يزيل ألمي" من هذا الكتاب. ولكنها طاقة شكلها الاستعمار وفق منطقه ومقاصده في ثقافة قوية (دعك من حسنها وقبيحها) بقيت بعده. وسنضل في العلم بالاستعمار وبأنفسنا إذا اعتقدنا أنه رحل عنا وتركنا كصحن الصيني لا شق ولا طق. فلقد تهافت البرنامج الوطني لـ"محو آثار الاستعمار"؛ لأننا فهمنا خطأ أن الاستعمار "يتبخر" بالاستقلال، فنعود سيرتنا الأولى كمن يصحو من حلم مزعج."
إلا أنَّ الدكتورة فدوى تنظر إلى معهد بخت الرضا من زاوية أخرى، عازية التقديس الذي حظي به المعهد إلى نجاح تجربته الرائدة في مجال التعليم العام، وإعداد المناهج التدريسية، وتدريب المعلمين؛ وفي المقابل إن التجارب التي جاءت بعد إلغاء المعهد عام 1970م، لم تكن "جادة ومدروسة"، بل على النقيض أسهمت في تدمير التعليم العام في السودان. وترى المترجمة أن فلسفة التعليم القائمة على إعمال الفكر، وترشيد الخُلق، وشحذ الروح الوطنية، والاهتمام بالأنشطة الترفيهية والثقافية المصاحبة أثبتت أنَّ تجربة بخت الرضا كانت أفضل من التجارب التعليمية اللاحقة لها، واستناداً إلى هذه الخصائص تعاظمت روح التقديس، والحنين إلى الماضي. ولذلك تصف فدوى التجربة بأنها "الوحيدة المتاحة الآن للحنين إليها و"تقديسها"؛ لأن الكارثة التي لحقت بالتعليم منذ أن طبق السلم التعليمي عام 1970 لم نفق منها حتى يومنا هذا."
فلا جدال في أن عملية عرض الرأي الآخر الذي يمثله كتاب الدكتور عبد الله علي إبراهيم ستفسح المجال لتقويم تجربة بخت الرضا التعليمية، والتجارب اللاحقة لها بموضوعية تسمو فوق هامة الانطباعات الشخصية. وبناءً على ذلك يضحى الطريق ممهداً لتثقيف الواقع القائم في السودان الآن؛ والبحث عن بدائل أفضل في أدبيات التعليم العام على المستويين العالمي والإقليمي، وتوطينها لتواكب احتياجات السودان المتعددة.

خاتمة:
تتمثل أهمية هذا الكتاب في نقطتين رئيستين:
أولاً: إن مقدمة البروفيسور فدوى جادت بعرضٍ وافٍ عن نشأة معهد بخت الرضا، وتطوره إدارياً وفنياً. وتطرقت بشيء من التفصيل لسيرة السيد قريفث، المدير المؤسس لمعهد بخت الرضا (1934-1950م)، وطبيعة تأهيله الأكاديمي، وخبرته المهنية، وأدبياته التي أصدرها في هذا المضمار. وتناولت أيضاً علاقاته مع الرعيل الأول من السودانيين الذين عملوا معه في المعهد، وتحديداً الأستاذ عبد الرحمن علي طه، الذي كان يشكل البُعد السوداني في العملية التعليمية التي استندت إلى حزمة من النظريات الغربية في التربية والتعليم، بعد أن تمَّ تطعيمها بمتطلبات المجتمع السوداني وأجندة الحكومة الاستعمارية؛ ولذلك كان سر نجاح تجربة بخت الرضا يكمن في تركبيتها الخلاسية. وتقديراً لهذا الجهد المشترك أهدى قريفث كتابه الأول، تجربة في التعليم، "إلى عبد الرحمن علي طه أول وزير سوداني للمعارف وقبلها نائب عميد بخت الرضا لأثني عشر عاماً على أمل أن تساعد رواية بعض المهام التي تقاسمناها في الماضي في إنارة مشكلات المستقبل."؛ كما أهدى كتابه الثاني، "جعل المعلم محوراً"، شهادة عرفان لروح الفقيد، مفادها: "إلى ذكرى عبد الرحمن علي طه، نائب عميد بخت الرضا لاثني عشر عاماً، وأول وزير للمعارف في السودان – الذي ما كان لهذه التجربة أن تنجح دون وفائه وأمانته." 
ثانياً: يعتبر الكتاب مصدراً أولياً مهماً للباحثين الذين يهدفون إلى دراسة تجربة معهد بخت الرضا في عهد مديره المؤسس، ويقارنوا بين التجربة والتجارب الأخرى اللاحقة لها، وينظروا في عوامل النجاح ومظاهره، وأسباب الفشل وآثاره السالبة المترتبة على العملية التعليمية في السودان. وبذلك يستطيعوا أن يقيِّموا التجربة تقييماً موضوعياً في ضوء الانتقادات التي وجهت إليها، وينظروا في كيفية الإفادة من إيجابياتها.

بعد هذه التبصرة تبقى لنا كلمة أخيرة، قوامها التهنئة الصادقة إلى البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه التي استثمرت وقتها وجهدها بمدينة حفر الباطن، مقر إقامتها الأكاديمية العارضة بالمملكة العربية السعودية؛ لتخرُج لنا بترجمة هذا الكتاب المرجعي إلى العربية، وتجعل مادته متاحة للقراء، الذين لم يقفوا على أصله الإنجليزي. كما نزف التهنئة إلى مطبعة جامعة الخرطوم للنشر التي ثمَّنت الجهد، ونشرت النسخة المترجمة للكتاب؛ لتكون إضافة نوعية إلى مقتنيات المكتبة السودانية، وأدبيات الحقل التعليمي العام وتدريب المعلمين.

السودان بعيون غربية، الجزء الرابع

السودان بعيون غربية، الجزء الرابع
تأليف البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي
*****
تقديم
أحمد إبراهيم أبوشوك

دار جدل قديم عن الترجمة في الأروقة الأكاديمية: هل هي عِلمٌ أم فنٌ؟ فكانت الإجابة المُجمع عليها: إنها تجمع بين الاثنين، فإذا نظرنا إليها من الناحية الأكاديمية فهي علمٌ له قواعده، وأسسه، ونظرياته المرتبطة بعلم اللسانيات، ولكن مخرجات العمل المُترجَم تتأثر بملكات المُترجِم اللغوية، وثقافته الأدبية والمعرفية، وقدرته على توليد المترادفات في اللغات؛ ولذلك يقال أنَّ المُترجم كاتب ثانٍ للنصّ؛ لأنه يتقمص روح المؤلف، ويتوخى الدقة في نقل إحساسه الكامنة وراء الألفاظ والمعاني. ويصدق في ذلك قول إريك بوري (Eric Boury)، المتخصص في الأدب الأيسلندي: "إنَّ المترجم يجب يختفي وراء صاحب النصَّ حتى يبلور أسلوبه"، فالاختفاء وراء النصّ ليس عيباً، بل فضيلة تبرهن أمانه المُترجم؛ لأن القارئ الحصيف لا يمنح النصّ المترجم ثقته الكاملة في بعض الأحيان؛ إلا إذا كانت الترجمة جيِّدة الصنعة، وجاذبةً بجمالياتها ورسالتها السامية في تواصل الشعوب والثقافات. ومن زاوية أخرى نلحظ أنَّ النصَّ المترجم يعكس نظرة المؤلف تجاه الآخر الذي يختلف عنه ثقافةً، إذا كانت الثقافة تُعرَّف بأنها الدين لغة؛ أي معتقدات الناس، وتقاليدهم، وعاداتهم، وتاريخهم المشترك. ولذلك أفلح الأستاذ الدكتور بدرين الدين حامد الهاشمي بعنونت سلسلة الأعمال المختارة عن السُّودان التي ترجمها إلى العربية في ثلاث أجزاء سابقة: "السُّودان بعيون غربية". وأشار إلى ذلك في مقدمة إحدى المقالات التي نقلها إلى العربية في الجزء الرابع: "ونترجم هذا المقال من أجل نشر الوعي ببعض آراء الغربيين في الماضي القريب، وما سجلوه في كتبهم وصحافتهم عن جزء مهم من تاريخ السُّودان؛ ألا وهو تاريخ الدولة المهدية وقادتها. ولا يجد المرء حاجة ليذكر بأنَّ ذلك التاريخ مكتوب بأقلام المنتصرين، ويغلب على كثير منه الغلو، والتحيز، والميل، والهوى، وعدم الإنصاف، تماماً كما هو الحال مع التاريخ الذي يكتبه ويحفظه ويردده المناصرون (دون تبصر)، والذين لا يرون في قادتهم الوطنيين التاريخيين إلا أبطالاً عظاماً، لم تشب أفعالهم وأقوالهم شائبة، ولم تكن أفعالهم إلا خدمةً خالصةً للدين والوطن، بل وقد يلتمسون لهم الأعذار في ما ارتكبوه من انتهاكات، ومخازي، ومجازر. ولكن لا بد من القول بأنَّ كاتب هذا المقال قد أبعد النجعة في زعمه بأن الخليفة [عبد الله] "ربما يكون أقسى رجل في التاريخ"، فكل من له معرفة متواضعة بالتاريخ يعلم بأنه مرَّ على هذا العالم، شرقه وغربه - ومنذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا- عشرات، بل مئات الطغاة الذين قد يُعدُّ الخليفة بالمقارنة بهم حاكماً منصفاً وجزلاً رحيماً ... لا يخفى أنه يجب قراءة مثل هذه الكتابات الغربية عن المهدي والمهدية قراءة ناقدة فاحصة؛ ليس فيها تصديق كامل، ولا رفض مسبق، مستصحبين الظروف التاريخية، والأهداف والنوازع السياسية والثقافية التي دعت لكتابتها ابتداءً." بهذه الكيفية طرق الأستاذ الهاشمي على بعض جوانب المنهج التاريخي، والمعرفة التاريخية التي تستند إلى مصادر الماضي وآثاره التي يُعاد تركيبها وفق منهج بحثي يقوم على الاستقراء، والتحقيق، والنقد، والتحليل الذي يتناول المؤثرات الداخلية والخارجية التي أحاطت بالمشكلة التاريخية موضوع البحث، وأسهمت في تشكيلها. لكن حجم المصادر، ودقة الاستقراء، ومخرجات التحقيق، ومهنية النقد، وجرأة التحليل لاتفي وحدها لإعادة تركيب الماضي؛ لأن عملية التحليل والإعادة تحتاج إلى منهجٍ قادرٍ على استيعاب ديناميات الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، الناظمة لمفردات الحدث التاريخي. وهنا يظهر الفرق بين معايير القراء؛ لذلك يرى الهاشمي من فوائد الإطلاع على كتابات الآخرين أنها تعرفنا على ذواتنا عند أولئك الآخرين، "وكيف ينظرون إلى كثير مما نغفل نحن عنه، بحكم الألفة والتعود، رغم أن البعض منا تضيق صدورهم بالنقد أنى كان مصدره، وتبغض نفوسهم أن توجه إليهم سياط النقد من غير أهل البلاد، خاصة ممن حكمونا في العهد الاستعماري. وصدق من قال إنَّ المعاشرة حجاب." 
تقودنا هذه التوطئة إلى خلاصة فحواها أنَّ الترجمات والملخصات التي جمعها الأستاذ الهاشمي بين دفتي الجزء الرابع من سلسلة "السُّودان في عيوب غربية" تخدم أكثر من غرض بالنسبة للقراء السُّودانيين. 
أولاً: تُسهم في تثقيف القارئ العادي بنظرة الآخر إلى بعض القضايا الإشكالية المرتبطة بتاريخ الرق وتجارة الرقيق في السُّودان، وبعض الجوانب المتعلقة بالفكر المهدوي وممارسات الدولة المهدية، وبعض التساؤلات المشككة في ضع دارفور في دولة السُّودان الحديثة، وجذور بعض المشكلات ذات الصلة بواقعها المأزوم؛ وتتطرق أيضاً إلى طرفٍ من تاريخ الناقل الوطني: الخطوط الجوية السُّودانية؛ فضلاً عن أدب الرحلات الذي دوَّنه نفرٌ من الإداريين والمعلمين البريطانيين الذين عملوا في خدمة حكومة السودان لفترات مختلفة، ونقلوا لقرائهم الكثير والمثير عن غرائب السُّودان وعجائب الأسفار فيه، على سنة الرحالة ابن بطوطة. 
ثانياً: تضيف ترجمات الهاشمي وملخصاته لبعض الباحثين السُّودانيين الذين لم يطلعوا على أصولها بُعداً آخر في مصادر أبحاثهم ذات الصلة، وتثقفهم أيضاً بالمنهجيات العلمية المتبعة في معالجة القضايا الشائكة في تاريخ السُّودان، علماً بأن بعض المقالات المترجمة قد كتبها باحثون مقتدرون في مجال الدراسات السُّودانية، باختلاف مساقاتها العلمية (التاريخ، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، وعلم الانثروبولوجيا)، ونذكر منهم ركس شون أوفاهي (R. S. O’Fahey)، وبيتر ودوارد (Peter Woodward)، وهيزر شاركي (Heather Sharkey)، وروبرت كريمر (Robert Kramer)، أهارون لايش (Aharon Layish) ورتشارد لوبان (Richard Lobban)، وروبرت كولنز (Robert Collins)، ودقلاس جونسون (Douglas Johnson)، وإلينا فيزاندي (Elena Vezzandini). فلا غرو أنَّ الاستئناس بمناهج هؤلاء العلماء في مجال البحث العلمي يفيد في تجسير الروابط بين العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة، ويُسهم في توليد المناهج البحثية المتكاملة في إطار أدبيات الدراسات البينية. 
ثالثاً: تعين ترجمات الهاشمي وملخصاته قادة العمل السياسي والفكري في استيعاب أبعاد بعض المشكلات السياسية في السُّودان، فمثلاً: الدكتور بيتر ودوارد طرح في المقالين اللذين ترجمهما الأستاذ الهاشمي حزمة من المشكلات الجوهرية المتعلقة بإدارة الحكم في السُّودان، وذلك في إطار عنوان مقاله الاستنكاري: "هل السُّودان قابل للحكم؟" وفي مقال الآخر بعنوان: "التحولات السياسية في ماضي وحاضر السودان". وعلى النسق ذاته ناقش الدكتور أوفاهي قضية دارفور في ضوء سؤال محوري: "هل لدارفور مستقبل في السُّودان؟" فلا مندوحة أنَّ قراءة مثل هذه المقالات بتدبر من قبل الساسة السُّودانيين وسدنة "العقل الاستراتيجي" ربما تُسهم في معالجة بعض مشكلات إدارة الدولة، ونظم الحكم، وصراعات الهُويَّة في السُّودان.

تؤكد هذه الأغراض الثلاثة المشار إليها أنَّ الأستاذ الهاشمي كان يختار موضوعات ترجماته وملخصاته بعناية فائقة، غير ذاهلة عن مقاصدها، بل تدل على سعة ثقافته، وإطلاعه، ووعيه بثقافة القارئ الذي يخاطبه، بالرغم من أنه لم يكن متخصصاً في الدراسات السُّودانية بفروعها الاجتماعية والإنسانية؛ لكنه هاوٍ لتاريخ السُّودان، وصاحب رسالة هدفها تثقيف القارئ السُّوداني بنظرة الآخر إليه؛ لإخراجه في دائرة الانكفاء على الذات إلى دائرة استيعاب نظرة الآخر إليه، التي ربما تساعده في فهم بعض مشكلات السُّودان الآنية، والبحث عن حلول مناسبة لها. ومن زاوية أخرى يدرك القارئ المتمعن في متون النصوص المترجمة في الجزء الرابع من سلسلة "السُّودان في عيوب غربية" والأعمال الأخرى أنَّ الأستاذ الهاشمي قد أثبت بجدارة أنَّ الإبداع يكمن في الهواية إذا توفرت الملكة لصاحبها، فالتخصص في علوم اللسانيات لا يكفي وحده لجعل عطاء المترجم عطاءً ثراً، بدليل أنَّ عَالِم علم الأدوية والسموم استطاع أن يترجم إلى العربية سلسلة من الأدبيات الإنجليزية المهمة في مجال الدراسات السُّودانية بضروبها المتنوعة، والشاهد في ذلك سلسلة "السُّودان بعيون غربية" بأجزائها الأربعة؛ وروايتي الأستاذة الروائية ليلى أبو العلا: "مئذنة في ريجنت بارك"، و"حارة المغنى". ولذلك تصدق شهادة الدكتور الدبلوماسي خالد محمد فرح: أنَّ الأستاذ الهاشمي "أغزر السُّودانيين إنتاجاً ... وأميزهم عطاءً كماً وكيفاً" في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وتقودنا هذه الشهادة إلى نتيجة مفادها أنَّ الأستاذ الهاشمي استطاع أن يؤسس لنفسه موقعاً متميزاً في قائمة السُّودانيين، الذين احترفوا صنعة الترجمة وعجموا عيدانها، أمثال صلاح الدين عثمان هاشم، وجمال محمد أحمد (1915-1986م)، والجنيد علي عمر، وهنري رياض سكلا (1927-1995م)، وعلي محمد المك (1934-1992م)، وعبد الرحيم أبوذكرى (1944-1989م)، ومحمد علي جادين. 
وبناءً على ذلك أؤكد للقارئ الكريم أنه سيجد متعةً فائقةً ومؤانسةً لطيفةً في قراءة هذا الجزء الرابع من سلسلة السُّودان بعيون غربية، تشكل تراكماً معرفياً للذين قرأوا الأجزاء الثلاثة الأولى منها، وتحفِّز أيضاً الآخرين على قراءتها؛ لأن هذه السلسلة تزخر بكمٍ وافرٍ من المعلومات المثيرة للجدل عن تاريخ السودان، والفوائد التي تُعرِّف القارئ ببعض مفردات التراث السُّوداني في نظر الآخرين الذين دوَّنوه بأقلام ذات ثقافات ومنطلقات فكرية متباينة، تجمع بين القراءات الأكاديمية الجادة، وأدب الرحلات ومؤانساته، والروايات الاستشراقية المثقلة بنظرتها الاستعلائية تجاه الآخر.

طرابيل كنيسة قنتي في دائرة الضوء

أحمد إبراهيم أبوشوك
أثناء إقامتي القصيرة (7-20 مايو 2015) في مدينة بتسبيرج (Pittsburgh) الأمريكية لاحظتُ مدى اهتمام القوم بآثارهم التاريخية والحضارية، وبمباني جامعتهم العريقة التي أُسست عام 1787م، حيث تتوسطها كتدرائية التعليم (Cathedral of Learning)، في شموخ أشمٍّ يعكس رمزية المعرفة وأهميتها. وقفتُ عند قاعدتها في تواضع لا يلامس أطراف عظمة حضورها البازخ في المدينة، وتقديرها في نظر السُواح والمقيمين. وفي تلك اللحظة جالت في ذاكرتي حادثتان يقفان على طرفي نقيض، ويشكلان طرفاً من معالم الاختلاف بين أبعاد التفكير الذهني للإنسان. ترتبط إحداهما بالرأي الذي أطلقه أحد أساتذة التاريخ والحضارة بجامعة أمدرمان الإسلامية: "بأن آثار السودان السابقة لدخول الإسلام عبارة عن موروثات ضلال نصراني وعبدة طين وأوثان لايجوز الاحتفاء بها"؛ وانسحاباً على ذلك جاءت الحادثة الثانية بمشاهدها المتعددة التي تجسدت في تحطيم تمثال الشيخ بابكر بدري بجامعة الأحفاد، والشهيد القرشي بجامعة الخرطوم، والمجاهد عثمان دقنة أمام بلدية بورتسودان، والنصب التذكارية لأمراء المهدية بساحة جامع الخليفة بأمدرمان. وفي هذه الأيام يظهر نمط مشابه من التفكير السطحي، تتجلى معالمه في انتقاد الحفريات الآثارية التي تُجري تحت إشراف المشروع القطري-السوداني لترميم وصيانة بعض المواقع الآثرية في الولاية الشمالية وولاية نهر النيل، ووصفت تلك الانتقادات توظيف التمويل القطري في المصرف الذي حدد له بالسفه والذهول عن مقاصد الأولويات. وهنا يظهر الفرق بين العقلية الغربية والشرقية، فهم يقدرون الآثر المادي؛ لأنه يمثل ملمحاً من ملامح حضاراتهم السابقة، ويشجع أجيالهم اللاحقة لتطوير مسارات الأبداع والعطاء الإنساني؛ لأن العقل الذي يستطيع أن يقيِّم موروثات الماضي بطريقة موضوعية، يستطيع أن يستثمرها بصورة إيجابية لبناء حاضر أفضل. وبناءً على هذه القيم المفاهيمية المتعارف عليها عالمياً يمكن القول بأن التمثال التذكاري للشيخ بابكر بدري ليس فيه شية من الوثنية؛ لأن أهل السودان لايعبدون رائد تعليم المرأة، بل يرون في شخصه العصامي تجسيداً لبدايات الوعي التنويري في مجتمع كانت تعلو فيه النبرة الذكورية، وتتصاعد الانتقادات القادحة في أهمية التعليم المدني للبنين قبل أن يكون مسموحاً به للبنات. وعند هذا المنعطف تكمن فضيلة تقدير المبدعين من أفراد الشعب السوداني، وتتصاعد قيمة المعرفة التراكمية التي تدفع الإنسان الواعي بمقاصدها إلى الأمام. لكن مشكلتنا الأساسية تتبلور في أننا نثمن الأشياء من منطلقات أيديولوجية سطحية ليست لها أبعاد مقاصدية؛ بل في معظم الأحيان ذاهلة عن مقاصد الموضوعات المنتقدة نفسها. ولذلك نجد أن الغربيين في كثير من شؤونهم الحياتية يهتمون بجواهر الأشياء، وكيفية توظيفها لخدمة المصلحة الإنسانية، بينما نحن نتعلق بالقشور؛ دون إدراك لكنه السؤال المُلح، والمستفز في آن واحد: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نُعرِّف القارئ بالمشروع القطري-السوداني الذي يهدف إلى التنقيب عن الآثار السودانية في الولاية الشمالية وولاية نهر النيل، وترميم الآثار المكتشفة وصيانتها، ثم إعداد دورات تدريبية للعاملين الجدد في حقل الآثار. وتُقدر قيمة الدعم المالي المقدم للمشروع من دولة قطر بـ 135 مليون دولار أمريكي، لمدة خمس سنوات. وقد تم تدشين هذا المشروع عام 2013م تحت إشراف نخبة من علماء الآثار القطريين، والسودانيين، والألمان. وتشمل المناطق التي تمَّ التنقيب عنها في محلية التضامن بالولاية الشمالية، آثار كنيسة قنتي؛ وموقع "حوش مار" بقرية فقيرنكتي، والذي يشبه تصميمه المعماري مدينة الخندق، حيث توجد به آثار مساكن، ومحال تجارية، ومباني إدارية، مشيدة من الطوب اللبن والطين (الجالوص)، وتُقدر مساحة الموقع بـ 150350 متراً مربعاً. وأما الموقع الثالث فهو موقع المقابر التي تقع شرق قرية منصوركتي، وهي عبارة عن 110 كومٍ دائري وبيضاوي من الحجارة والحصى، مرتفعةً عن سطح الأرض، ويبلغ قطرها من 6 إلى 20 متراً، ويرجع الآثاريون تاريخها إلى الفترة الأخيرة من العهد المروي وما بعده. والموقع الرابع هو موقع قلعة الحتاني التي تُنسب إلى الملك الحتاني الذي عاش في أواخر العهد السناري، وهي في شكل حصن استراتيجي، بُنيت على الضفة اليسرى للنيل، وبالقرب من قرية حسينارتي.
لا يتطرق هذا المقال إلى كل هذه المواقع الآثرية، أو يقدم إجابة شافية عن ا لسؤال المحوري: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟ أو يفند دعاوى المعارضين لمصارف المشروع القطري-السوداني، بل يسعى المقال في جوهره لتوضيح ملامح أحد المواقع الآثرية التي أُعيد كشفها وترميمها هذا العام، بعد أن كانت نسياً منسياً من قِبَل الحكومات السودانية المتعاقبة، والموقع المعنى هو موقع طرابيل كنيسة قنتي، بالولاية الشمالية.
ما الطرابيل وما أصلها؟
الطرابيل كلمة عربية فصيحة، ومفردها طربال، ويقصد به الجزء الأعلى من الجدار، أو الصخرة المبرزة في الجبل، ولذلك شاع المصطلح في جزيرة العرب، ومصر، وبلاد الشام. وفي السودان أضحى يطلق على مدافن الزعماء والملوك الكائنة بقرية نوري في الولاية الشمالية، وكذلك على أعمدة كنيسة قنتي، والتي يرجع الآثاريون تاريخها إلى عهد مملكة المقرة. وردت إشارة لها في كتاب نعوم شقير، تاريخ السودان وجعرافيته، الصادر عام 1903م؛ في معرض حديثة عن مدن السودان وآثارها، إذ يقول: "والدُفَّار على يمين النيل، وتبعد نحو 9 أميال عن أبي دوم قشابي، ويزعم أهل دنقلة أنها بلدة نمرود بن كنعان، وإن الملك موسى سكنها بعد الإسلام، وأسس فيها مملكة دامت إلى ما قبل الفتح المصري، فخربها الشايقية ... وهي الآن حلة صغيرة، وفيها قلعة خربة قائمة على صخرة كبيرة. وبقربها جزيرة عامرة تسمى قانتي [أي قنتي]، يسكنها ذرية ملوك الدُفَّار مع الشايقية، وفيها آثار قديمة، وجامعان، ومسجدان." والآثار التي أشار إليها شقير أرجعها بعض المهتمين بتراث المنطقة إلى أعمدة كنيسة قنتي، وكنيسة أخرى توجد آثارها في منطقة كندورة في الساب، حسب رواية الأستاذ أحمد شوك عثمان، الذي يحتج بأن حفريات إنشاء سدود فيضان عام 1994م أظهرت بعض أثارها المعمارية. ولا تمدنا المصادر الآثارية بمادة كافية عن طرابيل كنيسة قنتي وسكان المنطقة؛ إلا أن وجود الكنيسة داخل جزيرة قنتي يدل على أن الجزيرة كانت مأهولة بالسكان، لكن يبدو أنهم رحلوا عنها نتيجة للفيضانات المتكررة إلى ضفة النيل الشرقية، حيث كان يسكن أسلاف أهل منطقة قنتي الحاليون، علماً بأن حاضرة مملكة الدُفَّار كانت على الضفة الشرقية، وتحديداً بقرية جقرنارتي التي توجد فيها آثار مسجد أولاد جابر الذي إشار إليه صاحب الطبقات ود ضيف الله. وحديثاً تفيدنا المصادر التاريخية بأن قرية قتني كانت مأهولة بالسكان قبل العهد المهدوي، بدليل أن الإمام المهدي عين الشيخ محمد حسين والد العمدة أحمد شوك عاملاً عليها وعلى المناطق المجاورة لها. بالرغم من ذلك ظل أهالى يدفنون موتاهم بالطرف الشمالي من علي نارتي على الضفة الشرقية للنيل إلى أن تحول الدفن إلى قلعة هارون جوار الكنيسة بعد عام 1918م.
ولا ندري ما سر تسمية مقابر هارون. هل كان هارون المشار إليها رجلاً صالحاً؟ أم الاسم قديم، ويرجع تاريخه إلى الفترة المسيحية أو ما قبلها؛ لأن البعض يحتج بقول نعوم شقير أن أصل أهالي الدُفَّار يرجع إلى نمرود بن كنعان بن كوش بن حام بن نوح، وإذا افتراضنا جدلاً صحة ما ذهب إليه شقير، فهذا يعني أن جزيرة كانت مسكونة قبل مجيء المسيحية؛ لأن سلالة نمرود بن كنعان عاشت في العصور القديمة. وبذلك نصل إلى أن كنيسة قنتي في الأصل كانت معبداً، قبل أن تُحول إلى كنيسة. وهذا مجرد استنتاج يحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب. وفي الفقرات الآتية نتحدث عن الظروف التاريخية والإطار المسيحي العام الذي نشأت فيه كنيسة قنتي؛ لنرى أوجه الشبة والاختلاف بينها والكنائس الأخرى التي أُسست في كنف النوبة المسيحية.
الخلفية التاريخة لطرابيل كنيسة قنتي
بعد انهيار مملكة مروي في منتصف القرون الرابع الميلادي قامت على أنقاضها ثلاث ممالك نوبية، تشمل مملكة نوباتيا في الشمال وعاصمها فرس، ومملكة المقرة في الوسط وعاصمتها دنقلا العجوز، ومملكة علوة في الجنوب وعاصمتها سوبا. دخلت المسيحية بصفة رسمية إلى هذه الممالك في عهد الملك جستنيان وزوجته ثيودورا، أي في القرن السادس الميلادي، حيث أعتنقت مملكة نوباتيا وعلوة المسيحية على المذهب الأرثوذكسي (أي مذهب اليعاقبة)، بينما أعتنقت مملكة المقرة المذهب الكاثوليكي (الملكاني) على أيدي رجال البعثة التبشرية التي أرسلها جستنيان. ثم بعد ذلك توحدت مملكتا نوباتيا والمقرة، وبموجب ذلك تحولت مملكة المقرة إلى المذهب الأرثوذكسي، وأضحت تابعة لكنيسة الأسكندرية بدلاً عن كنيسة روما الإيطالية. وبلغ عدد الأوبرشيا التابعة لها في ذلك العهد سبع عشرة أبروشية، وكانت بابوية الأسكندرية تعين أساقفتها. أُسس معظم كنائس المقرة في تلك الفترة على الطراز البازيليكي أو الباسيليكي، وهو طراز من معماري ظهر في المدن الرومانية الوسيطة، ويقال أنه مأخوذ من الحضارة الأغريقية القديمة. وتعنى كلمة بازيليكا صالة الملك والعرض، أو القاعة الملكية في اللغة الأغريقية، وبعد ذلك انتقل الطراز البازيليكي إلى المباني التجارية والملكية، ثم إلى المباني الكنسية. وفي العادة تأخذ البازليكيا شكلاً معمارياً مستطيلاً، مقسم إلى ثلاثة أجزاء، هي الصحن المركزي الذي يتوسط المبني، وجناحين علي جانبي البهو، تفصل بينهما الأعمدة، ولها حنية (الحنية تعنى القوس) شرقية، وبعض البزيليكات لها حنيتين شرقية وغربية، ولها أبواب، بعضها يفتح علي ساحة الميدان العام، والأخر يطل على الشارع الرئيس في المدينة. وكانت البزيليكات الكنسية تغطى بسقف نصف برميلية في حيث الشكل، وتُزين من الداخل بالمنحوتات والتماثيل الجميلة والأرضيات الرخامية والجدران المكسوة بالرخام. وقد ساد هذا الطراز المعماري في كنائس النوبة بالرغم من أنه تأثر بالبيئة المحلية، حيث كانت تبنى الكنائس في الغالب من الطوب اللبن، أو الطوب الأحمر، وبعضها من الحجر الرملي، أو الجرانيت.
الشيء الآخر المميز لكنائس النوبة أعمدتها الجرانيتية الأسطوانية الشكل وذات التيجان المربعة، والمزينة من الجوانب بزهرة اللوتس. واللوتس (Lotus) كلمة يونانية تطلق على نبات مائي مُزهر، تتميز أزهاه ببتلاتها الدائرية الكاملة، وقرنتها ذات الشكل الأسطواني، التي تبرز في العادة إلى أعلى. وتعتبر زهرة اللوتس من الرموز الوطنية في مصر، والهند، وفييتنام. واقترن اسمها بقضية الخلق في الأساطير المصرية القديمة، وكانت أوراقها تُوضع في مقابر الملوك والعظماء، والشاهد في ذلك أن بقايا منها وجدت حول جسد توت عنخ آمون عندما فُتح قبره عام 1922م. وإلى جانب ذلك نجدها في النقوش والرسومات الفرعونية في جدران المعابد المصرية القديمة.
الخاتمة
تقودنا طرابيل كنيسة قنتي إلى نتيجة مفادها أن قرية قنتي من أقدم القُرى في الولاية الشمالية، حيث يرجع تاريخها إلى فترة ما قبل المسيحية. وفي المسيحية كانت توجد بها كنيسة رئيسة من ضمن الكنائس التي انتظمت المناطق المأهولة بالسكان في الولاية الشمالية. وبعد أن تمَّت عملية أسلمة المنطقة وتعريبها صارت قنتي جزءاً من مملكة الدُفَّار، التي أُسست حاضرتها في قرية جقرنارتي على الضفة الشرقية للنيل، وكانت تابعة من الناحية الإدارية إلى دنقلا العجوز التي كانت مقراً لممثل سلطنة الفونج في المنطقة آنذاك. وفي عهد الملك ناصر بن حمد بن محمد بن صلاح بن مسوا الكبير تعرضت مملكة الدُفَّار إلى اعتداء وتخريب من جيرانها الشايقية، أفضى إلى انهيارها قبيل الغزو التركي عام 1820م. وبعد ذلك التخريب نزح معظم أهل الدُفَّار إلى الضفة الغربية للنيل، حيث سكنوا جزيرة قنتي، ومنطقة منصوركتي، وحسينارتي، وأمبكول، وكورتي، والغريبة، وبقى بعضهم بالضفة الشرقية في المنطقة الواقعة بين جقرنارتي وجلاس، وهاجر آخرون إلى أنحاء متفرقة في وسط السودان، وشرقه، وغربه. وفي عهد المهدية أصبحت قنتي ضمن عمالات العفو الإحسان التي أسسها الإمام المهدي بعد انسحاب قوات مصطفى ياور، مدير مديرية دنقلا، من المنطقة بعد واقعة منقارتي عام 1884م، وعُين محمد حسين، والد العمدة أحمد شوك، عاملاً على منطقة قنتي. ويؤكد هذا التعيين أن جزيرة قنتي كانت مأهولة بالسكان في تلك الفترة، أو بالأحرى منذ انهيار مملكة الدُفَّار في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.
عليه نأمل أن يكون هذا الاهتمام بآثار منطقة قنتي ومنصوركتي حافزاً للباحثين لتوثيق تاريخ هذه المنطقة العريقة والمهمة في تاريخ السودان القديم والوسيط والحديث، بدليل أن الكشوف الآثارية أثبتت أن تاريخها يرجع إلى العهد المروي؛ وبعد دخول المسيحية إلى مملكة المقرة كانت من المناطق التي تمثل حواضر الوجود المسيحي، والشاهد في ذلك طرابيل كنيسة قنتي؛ وفي العهد الإسلامي كانت مملكة الدُفَّار واحدة من المملكات الإسلامية التي نشأت على ضفاف نهر النيل، وأحتضنت أيضاً مشيخة أولاد جابر الذين اشتهروا بالعلم والصلاح في العهد السناري.

124 مدرسة حكومية متعددة الطوابق في الخرطوم


ما الذي جرى؟ انتشار محال البيض والطعمية




تمطّت الخرطوم وتمطقت، وهي تخرج لسان السخرية في العام 2011م في أعقاب انفصال الجنوب "سعر طلب الفول في جوبا وصل لخمسة جنيهات" هذا قبل أن تدس الخرطوم اليوم يدها في جيبها لتخرج عشرة جنيهات ثمناً لذات طلب الفول.

سندة يااا

يقضم العم حميدان بمحطة الجميعابي بأمبدة ساندوتش البيض والطعمية، وأمامه كأس من الشاي السادة، الساعة كانت تقترب من الثانية بعد الظهر، وهو يجِدّ في (عزومة) جاره في المكان لأن يتناول (سندة) هو الآخر، فيعتذر الأخير، ليبدأ صاحبنا في السرد دون أن نطلب منه ذلك، يقول العم حميدان "لقد ولى زمن الشبع يا بني، كنا في الماضي نتناول الإفطار بين أبنائنا وبناتنا، ثم نلتحق بأعمالنا لنعود في مثل وقت (السندة) هذا لنلحق بـ(صينية الغداء)، وعندما يهبط الظلام نرتوي من اللبن ونخلد للنوم في سكينة ووقار، أما اليوم كما ترى فإنها الثانية بعد الظهر وبين يدي هذه (السندة)، وهي سندة بالفعل، فلا هي وجبة لنسميها كذلك، ولا هي عدم لنتركها بالكلية، فقط شيئاً يسكت عصافير البطون، وقد فارقت الإفطار من وقت بعيد وتقترب من الغداء، ونكون بذلك يا بني فقدنا الإفطار ولم نحصّل الغداء، وينتظرنا (البوش) في العشاء".

طبلية وجرائد

الانتشار الكثيف لمحلات بيع سندوتشات البيض والطعمية في كل العاصمة بمحافظاتها ومحلياتها ومدنها المختلفة لا تخطئه عين، فالأمر لا يكلف سوى إقامة (طبلية) وفرشها بورق الجرائد، ودلق حبيبات الطعمية فيها، ومن ثم يتخذ البيض مكانه بين ذلك، ليهرع الناس من كل لون، طلاب، عمال، موظفين، ومزارعين، لا يصيبك أدنى حرج وأنت تجلس أو تقف لتلتهم تلك (السندة)، قلت للصبي بائع السندات ذاك: هل من الضروري أن يكون المكان قريباً من (الفرن) لتحقيق المكسب؟ فقال: "ليس بالضرورة، لكن بعض الناس وتقليلاً للتكلفة يقومون بشراء الخبز من الفرن ويطلبون الطعمية والبيض". قلت له وكم ثمن السندة؟ فقال: سندوتش الطعمية بثلاثة جنيهات، أما الطعمية بالبيض بأربعة جنيهات.. قلت له: وكيف هو الإقبال؟ فقال: أرمي الطعمية على فترتين، الأولى في الصباح، والثانية بعد الظهر، والأمور ماشة والحمد لله.

ظروف اقتصادية

نعود لنحاول الإجابة عن السؤال: لماذا هذا الانتشار الكثيف لتلك المحال؟ أعني محال الطعمية والبيض، وببساطة شديدة ودون عناء هو الحال الاقتصادي الخانق الذي يلف المجتمع بكل طبقاته، فحتى الأسر في البيوت دعك من السابلة في الطرقات أضحت تتخذ من (قدرة) الدكان القريب من السكن طعاماً لإفطارها، فقائمة المتطلبات الحياتية لحد كثيرة، تبدأ بالإيجار، ولا تنتهي ببائع اللبن، ومصاريف المدارس، فهل كانت إذن غضبة الناس مبررة، ووالي الخرطوم يعلن بحياء إغلاق (قدور الفول) بالدكاكين في العاصمة الخرطوم قبل أن يتراجع عن ذلك؟