من اول ما تراجع عنه الترابي بعد المفاصلة مع تلاميذه الحاكمين، كان دعواته السابقة للشباب والطلاب للذهاب للجهاد. بل ذهب إلى أن من ماتوا لم يكونوا شهداء من الأصل بل فطائس. لقد باع الترابي حلم الشهادة للالاف من الشباب السوداني الذين ماتوا وفي طريقهم إلى الشهادة أصبح بعضهم مجرمي حرب. فقد كانت هجمات المجاهدين على قرى جبال النوبة في بداية التسعينات من أكثر سنوات الحرب وحشية في المنطقة. فحسب تقارير دولية في تلك الفترة قتل ما لايقل عن مائة ألف من جبال النوبة وشرد مليون آخرين. أما جنوب السودان فقد كان ساحة المعركة الكبرى التي شهدت أهوالا لا توصف.
ان فوضى دعوات الجهاد والحملات الوحشية التي قادها الدفاع الشعبي ومن ساندهم من مليشيات قبلية في الحملات الجهادية الاستشهادية في جنوب السودان كان من أهم أسباب ازدياد الشعور بالغضب والرغبة في الإنفصال لدى الجنوبيين. أما جبال النوبة فقد شهدت مرحلة دموية من التهجير والتمييز والترحيل القسري لما سمي بمعسكرات السلام وقتها. وهاجر عشرات الآلاف من مناطق الجهاد المحروقة إلى الخرطوم بحثا عن الطعام وبعض الأمن. فتكونت المعسكرات الكبرى حول الخرطوم، حيث تواصل القمع باسم الدين من الكشات عبر البوليس والأمن الذي اعتقل وعذب وسجن مئات الأبرياء بتهمة البحث عن لقمة العيش.
بعد المفاصلة أصبح الترابي بعيدا عن المسؤولية المباشرة بل وانضم للمعارضة وإعداء الإمس بمن فيهم الكفار الذين دعا للجهاد ضدهم من زعماء الجنوب بما فيهم قرنق. لكن لا تزال هناك تساؤلات تدور حول دور الترابي في الصراع القائم في دارفور، وهو الذي شجع أعدادا كبيرة من ابناء الإقليم المتدينين بطبعهم للانضمام للحركة الإسلامية. واستخدم التباين الاثني في المنطقة لتجنيد الآلاف في المليشيات القبلية التي حاربت تحت لواء الدفاع الشعبي في الجنوب. بالتأكيد أن التسليح المفرط للشباب على أساس قبلي وعشائري أدى في النهاية لتحويل دارفور لبرميل من البارود، قابل للانفجار في أي لحظة. لكن جدير بالذكر هنا ان الصادق المهدي في حكومة الانتفاضة الثالثة كان أول من بدا عملية مباشرة لتسليح قبائل دارفور لمساندة الجيش في الجنوب.
ورغم ما أعلنه الترابي من توبة ورغم العضوية الكبيرة والعلاقات الوثيقة لحزبه بقوي دارفورية مؤثرة، لم يقم الترابي بأي دور للوساطة أو المساهمة في إنهاء نار الحرب في المنطقة. وهو ما يضاف لرصيده من عدم الاكتراث بأرواح السودانيين. لا يمكن تجاوز أيضا دور الترابي في بناء الدولة الأمنية الحالية المرتكزة على فكرة التمكين. وهي النظرية التي أدت إلى أن تتخذ الإنقاذ في التسعينات أكثر الإجراءات تعسفية تجاه أعدائها في سبيل تمكين حكم الإسلاميين. فقد فتحت بيوت الأشباح التي قتل فيها وعذب وشوه نفسيا وجسديا عشرات الآلاف من النساء والرجال الذين خالفوا الإسلاميين ورفضوا نهجهم. ومن لم يكن سياسيا معروفا وكان مشكوكا في ولائه أحيل للصالح العام وطورد حتى ترك البلاد أو استسلم لدولة الفساد. ومنهم من مات غما وفقرا وغبنا.
وهذا ليس في إطار ذكر مساوي أو محاسن الموتى، بل في إطار التاريخ الذي يجب أن لا ينسى حتى لا يتكرر. وفي إطار الأولويات الوطنية والعدالة الإنسانية والألهية التي جعلت الظلم محرما. ومن الأولى لنا انونذكر بالرحمة وندعو بالشفاء والصبر والثبات للملايين من ضحايا الترابي، الذين لم يأخذوا حقهم منه في الدنيا، ولهم الخيرة في العفو عنه أو تركه لربه في الآخرة.
لكن ما نجح فيه الترابي بدهاءه المشهود هو أن يحول نفسه من مجرم وشريك في الجريمة إلى ضحية، وهو قد كان السياسي السوداني الاول من سياسي المركز الذي ايد تسليم البشير للجنائية. وكان بكرى الصائغ قد كتب عن أخطاء الترابي من 1983-2014، قائلا إنه قد أجرى عشرات اللقاءات مع الرجل الذي أباح له فيها بالكثير، لكنه رفض الإجابة على سؤال واحد وقال الكاتب "وكلما سألت (الشيخ)- من بعد ذلك- إن كانت المفاصلة مسرحية (ذات أبطال معدودين) تهرّب من الإجابة (القاطعة) واكتفى قائلاً وهو يتبسّم: (يا أخي الكريم، السياسة كلها قائمة على التدابير)". أما وقد سارت تدابير القدر بأن يذهب الترابي قبل أن تنتهي آخر تدابيره وهو الحوار الوطني والنظام الخالف الذي بشر به، فستظل خططه المستقبلية حبيسة قبره لكن تاريخه سيظل محل محاكمة مستمرة على كل جرائمه التي دبر لها وشجع عليها وسكت عن معظمها.
عثمان نواي
osman.habila@gmail.com