قبل أيام اعلنت نتيجة امتحان الشهادة السودانية المركزية ؛حيث جلس 445,645 طالبا من كل انحاء السودان ....وكانت نسبة النجاح 72,9% في المساق الاكاديمي ، ...وكالعادة تمركز التفوق الاكاديمي في مدارس العاصمة الخرطوم الخاصة و"النموذجية الحكومية" (مدارس المتفوقين ) إذ بلغت نسبة الطلاب المتفوقين منهما 86% ، ..وكل هؤلاء ينتمون فقط للمدارس الخاصة والنموذجية ؛إذ خلت قائمة التفوق من أي اسم لمدرسة حكومية جغرافية.
وطبقا للأوضاع الاقتصادية فإن وجود تلميذ/ة في مدرسة خاصة أو نموذجية يعكس المستوى الاقتصادي والطبقة الاجتماعية، فهل تعكس نتيجة امتحان "الشهادة السودانية" أن فرص التعليم في السودان ومقاعد المتفوقين أصبحت محتكرة لمناطق جغرافية معينة وحتى داخل هذه المناطق لطبقات اجتماعية معينة؟ أم أن الأمر لا علاقة بتخطيط او تدبير وإنما هو محض صدفة؟ أم أن هناك أسباب موضوعية تجعل التفوق ينحصر كل عام في "الخرطوم المخملية" ان جاز التعبير وتحرم منه احياء الخرطوم الفقيرة؟
المدرسة الجغرافية خارج المنافسة :
القيادي في نقابة المعلمين أستاذ أحمد ربيع أمن على أن نتيجة امتحان الشهادة يعد لها عبر "المدارس النموذجية" التي يتم قبول كل الطلاب المتفوقين في امتحان شهادة الأساس بها ،ويتم توفير كل المعينات من معلمين مؤهلين واجلاس وكتب وبيئة مدرسية، ويعتبر ربيع أن كل معينات العملية التعليمية متوفرة فقط في المدرسة النموذجية ،بالاضافة الى أن الاستاذ في المدرسة النموذجية يكون وضعه افضل من المدرسة الجغرافية، إذ يكون هناك مصدر تمويل من "الفصول الخاصة" وهي عبارة عن استثمار داخل المدرسة، حيث يدفع الطالب "غير المتفوق في شهادة الأساس" ليلتحق بالمدرسة النموذجية، مما يكرس ل"التعليم الطبقي" حيث يدفع من يملك ليتعلم مع من يتفوق! .مع أن واجب الحكومة هو تعليم الطالب المتفوق وغير المتفوق. ويضرب ربيع مثلا بمدرسة "الخرطوم النموذجية بنات" التي تقبل الطالبة في الفصل الخاص بها بمبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه.
وبذلك اصبحت المدارس الجغرافية خارج المنافسة،وقلما يتفوق طلابها أو ينافسوا على مستوى "كليات المنافسة" ،وهي مدارس تفتقر لكل مقومات العملية التعليمية ،والحكومة تهملها تماما لذلك اصبحت مدارس (الفقراء) الذين لا يملكون أية امكانات مادية لتعليم ابناءهم في المدارس الخاصة، او الفصول الخاصة في "المدارس الحكومية النموذجية" ،والوضع الآن يمتد الى القرى التي دخلتها المدارس الخاصة ،في إطار سياسة "خصخصة التعليم" التي تنتهجها الدولة .
73% من طلاب الهندسة من ولاية الخرطوم :
بروفسير محمد الامين التوم الخبير في مجال التعليم قال :" طوال الاعوام السابقة 60% ممن يتم استيعابهم في التعليم العالي من الجامعات الحكومية والخاصة هم من ولايتين فقط الخرطوم والجزيرة .وتتوزع بقية النسبة على بقية الطلاب في كل ولايات السودان وهذا مظهر ل"التمييز الطبقي والجغرافي" ،ويمضي التوم أكثر ليقول أن كليات المنافسة كالهندسة والطب كلها من مناطق بعينها ....وفي العام الماضي كان 73 % من طلاب كليات الهندسة من ولاية الخرطوم وحدها ،وهناك رأي خاطئ يقول أن ذلك بسبب نزوح كل الولايات الى الخرطوم، ولكن علميا هذا رأي غير صحيح لأن نسبة سكان ولاية الخرطوم تبلغ 16% من نسبة سكان السودان، وهي تقارب نسبة سكان ولايات دارفور .ولو تابعنا الفئة العمرية للطلاب الذين يجدون فرصا في التعليم العالي وهي من 17-23 لوجدنا الخلل واضحا .
7-8% من ابناء المزارعين في كليات الطب :
يتناول بروفسير محمد الأمين التوم "طبقية التعليم" من زاوية أخرى وهي قبول الطلاب حسب مهن أولياء الأمور ويقول أنه خلال العام 2005 -2006 كان نسبة 70% من المقبولين في جامعة الخرطوم الاكثر منافسة، هم ابناء التجار والمهنيين في الطبقة المتوسطة العليا وهذا يدل على التمييز الطبقي ، ويضرب الامين مثلا بالمزارعين الذين يمثلون 80% من القوى العاملة في السودان لكن ابناءهم وبناتهم الذين يدخلون كليات الطب لا تتجاوز نسبتهم 7-8% !!
التعليم متحيز للحضر ضد الريف وللاغنياء ضد الفقر :
(التعليم الرسمي متحيز للحضر ضد الريف وللاغنياء ضد الفقراء ،ليس التعليم العالي فقط بل حتى التعليم العام ) بهذه العبارة اوضح البروفسيرمحمد الأمين التوم رؤيته لطبقية التعليم ،واسترسل يشرح الوضع منذ عهد الاستعمار البريطاني وكلية غردون لكنه أشار إلى تفاقم الوضع في ظل النظام الحالي قائلا"هذا ليس مدهشا لأن التعليم يعيد انتاج الوضع الاجتماعي ،والتعليم من قبل المدرسي حتى الجامعي مصنوع ليحافظ على النظام السائد.ويمكن أن نربط تخلف السودان بنظام التعليم الطبقي" .
المهمشون خرجوا من المنافسة في كليات الرغبة الأولى :
دكتور صديق امبدة ذهب الى ابعد من ذلك، بتأكيده على طبقية نتيجة امتحان الشهادة السودانية، وقال إن الدولة تكرس لطبقية التعليم على مر 25 سنة ؛ويسترسل امبدة في الشرح عن ما يترتب على ذلك :" إن المهمشين في نتيجة امتحان الشهادة خرجوا من المنافسة على كليات (الرغبة الأولى )،وهي الكليات التي تعطي فرصا افضل للعمل مثل الطب والهندسة ....فليس منطقيا ولا طبيعيا أن تستأثر ولاية الخرطوم وحدها باكثر من 80% من المائة الاوائل على مستوى السودان ... ويضيف أمبدة أن الطلاب الذين يدخلون تلك الكليات ليس لحوجتهم الاكثر لها ولكن لتوفر الظروف المادية الجيدة التي يحتاجها التعليم ..وهذه هي النتيجة الطبييعة لتدهور التعليم، إذ أن أولياء الأمور يدفعون 90% من مصروفات الدراسة وتسهم المنظمات بنسبة 7-8% بينما تتتكفل الدولة فقط ب1-2% من العملية التعليمية ....والحديث عن مجانية التعليم ليس صحيحا فكل المدارس يدفع طلابها رسوم لمقابلة احتياجاتها من كهرباء واجلاس وحتى الطباشير ...والوالي السابق عبد الرحمن الخضر كان قد اصدر قرارا بايقاف الرسوم من المدارس الحكومية الا أنه لم ينفذ لأن المدارس تتخذ ميزانيات تسييرها من الطلاب والحكومة لا تصرف على التعليم ،والمدارس حالتها في غاية السوء وقد اعلنت اليونسيف أن3 مليون طفل لايذهبون الى المدرسة، وهناك عدد كبير لا يملكون وجبة الفطور مما يجعل تعليمهم مشكلة لأنه من المستحيل أن تعلم طفلا جائعا! على الرغم من أن اليونسيف تتبنى سياسة افطار التلاميذ حتى يستوعبوا دروس يومهم الا أنه مازال هناك عدد كبير لا يملك الوجبة . كما أن بيئة المدارس الحكومية سيئة للغاية هناك 18% من المدارس بدون حمامات ،حوالي 351 من المدارس تنعدم فيها البيئة المدرسية تماما،
...30-40% من الاساتذة غير مؤهلين ؛والظروف الموضوعية ادت لأن تتمركز في العاصمة كل الكفاءات من المعلمين الذين يعتمدون على الدروس الخصوصية للطلاب المقتدرين! ومعظم هؤلاء الطلاب اسرهم لها علاقة بالحكم ....وهذا مؤشر لأن الحكومة تدرب ابناءها للحكم في الجيل الثاني ...لأنهم هم من يمتلكوا المقدرة على التعليم الخاص ...وفي المقابل دمروا التعليم العام ،فأصبح ابناءهم هم من يدرسون المناهج القوية وباللغة الانجليزية التي انهارت في التعليم العام ،وتتوفر لهم فرص التأهيل الاكاديمي بالخارج ليعودوا ويجدوا فرص العمل الجيدة في انتظارهم دونا عن بقية ابناء الشعب السوداني وبالتالي يكونوا قد اهلوا الجيل الثاني من أبناءهم للحكم والسيطرة على الدولة" ,
كانت الفاشر الثانوية الاولى على مستوى السودان ثلاث مرات:
"كل هذا التدهور اتى مع الانقاذ" يقول د.صديق أمبدة ...فقبل ذلك كانت المدارس الحكومية تعامل بعدالة في كل انحاء السودان وتوفر البيئة المدرسية لكل المدارس ،وفي ستينيات القرن الماضي احرزت مدرسة الفاشر الثانوية المركز الأول على مستوى السودان ثلاث مرات .والقطاع الخاص كان يدخل نسبا ضئيلة من طلابه للجامعات ولم تكن تحبذه حتى الاسر الغنية لأنه ارتبط بتدهور المستوى الاكاديمي للطالب
تعليم بديل ...لمجتمع بديل ..ووطن بديل :
"التعليم في هذه المرحلة يرتبط بالامتحان ؛واعداد الطالب للامتحان ..وهو تعليم تنافسي تشترك فيه الدولة والاسرة والمدرسة يقوم على المباهاة بإعلان في الصحف أن ابني تفوق واحرز درجة عالية ..لكن لا احد يسأل ماذا تعلم الطالب ...التعليم بهذه الطريقة مضيعة وهدر للوقت لأن الطالب الآن لا يستطيع أن يحل مشكلة شخصية لنفسه ،التعليم يجب أن يساعد الناس في تحقيق ذاتهم لذلك لابد من نظام تعليمي بديل يتناسب مع مجتمع بديل ووطن بديل" يقول دمحمد الامين التوم ويواصل: " التعليم الآن يخدم اغراض الاسلاميين الحاكمين ،لذلك لابد من وجود تعليم ديمقراطي يحث على الاحتفاء بالتنوع والتسامح والتفكير النقدي العلمي ..ولابد أن نوسع اي هامش متاح وخلق ذلك الهامش يمكن في الاحياء والقرى، خلق مجموعات من الآباء والاساتذة وكل المهتمين بقضية التعليم يعملوا مجموعات ضغط ،وتدهور التعليم لديه اصحاب مصلحة هو النظام الحاكم لذلك لابد أن نفكك هيمنة الحكومة عليه ولابد من تغيير النظام السياسي .يكون هذا جزء من آلية التغيير أن نزيد من قيمة الوعي باهمية التعليم" .
التعليم ..يخرج طلاب داعش :
أستاذ بشير نايل من غرفة كنترول الشهادة السودانية أمن على "طبقية نتيجة امتحان الشهادة السودانية" ونفى أن يكون للأمر علاقة بالامتحان ذاته أو تصحيحه ...يقول نايل:حتى خروج النتيجة لا يكون الاساتذة المصححون وفي الكنترول يعلمون شيئا عن الاوراق التي صححوها ...لأن التصحيح يكون بنظام (الكود) وهو اعطاء رقم سري للأوراق بديلا للاسماء ...لكن طبقية نتيجة امتحان الشهادة السودانية هي نتيجة طبيعية ل"طبقية العملية التعليمية" باكملها وهي سياسة الدولة باكملها ،إذ تم تحويل التعليم الى سلعة ينالها من يملك .وينتقد نائل المنهج التعليمي الذي "يخرج طالبا خالي الذهن".حتى لا يطالب بحقوقه وهذه هي نوعية التعليم التي تجعل الطلاب يذهبون الى داعش (الطلاب امخاخهم فاضية من المعرفة ) على حد تعبيره ..
طبقية التعليم الطبقي :
يذهب استاذ نايل الى ابعد من ذلك في طبقية التعليم ويوضح :"المدارس الخاصة والنموذجية هي تكريس لطبقية التعليم ،وهناك تعليم طبقي داخل هذه الطبقية ؛المدارس النموذجية نفسها مقسمة الطلاب الذين يحرزون درجات عليا حتى 274 يذهبون الى مدرسة الشيخ مصطفى الأمين للبنين والخرطوم النموذجية للبنات ..ثم بعد ذلك مدارس الخرطوم الجديدة وحلويات سعد وهكذا ....كل الذين يلتحقون بهذه المدارس هم ابناء الطبقات فوق الوسطى ،مدرسة الشيخ مصطفى الأمين معظم طلابها من ابناء الوزراء والمسئولين أو ابناء الرتب العليا في الجيش ...المدارس الخاصة كذلك (خشم بيوت ) مدارس مثل المنار والنيل لا يجود فيها طالب من الطبقة فوق الوسطى ويقبل الطالب ب6 مليون جنيه
عيادات...الاساتذة
"الاساتذة يعملون بنظام (العيادات )" يضيف نايل وهو اعطاء الدروس الخصوصية في البيوت إذ لاتقل الحصة عن مائة جنيه في الساعة ...وهي بالطبع للطلاب الذين يملكون ويدرسون اما في المدارس الخاصة العليا أو النموذجية في المقابل هؤلاء ينافسون طلابا في المدارس الجغرافية معظمهم من ابناء الفقراء ،وبينهم عدد كبير يعمل ليعول اسرته ،فبعد المدرسة يحمل درداقة أو يبيع اكياس في السوق ،ولا يستطيع أن يركز في دروسه بالاضافة الى أنه يمكن أن يأتي الى المدرسة جائعا ولا يملك حق وجبته ..لذلك لا ينافس ..ويندر أن يتعدى أول المدرسة الجغرافية 73% أو أن ينجح في كل المواد ..وطوال الخمسة عشرة سنة الماضية خلت قائمة المائة الاوائل من ابناء الفقراء.
المدرسة الجغرافية – التعليم التقني هما الحل :
العودة الى المدرسة الجغرافية التي تجمع بين "الأول والطيش" وابن المهندس وابن الغفير هي الحل بالاضافة الى الاتجاه للتعليم التقني ومحاربة التعليم الخاص" بهذا يلخص نائل الحلول .كما أن تشجييع التعليم التقني وتغيير النظرة تجاهه من قبل الاسر توفر للطلاب مستقبلا حرفيا مضمونا ،كما يوفر للدولة عمالة ماهرة ،ويمكن أن يتوجه 50-60% من الطلاب للتعليم التقني...كما ان محاربة المدارس الخاصة التي اصبح "يمتلكها كل من هب ودب يؤجر غرفتين صالة لتصبح مدرسة خاصة" ..كما أن معظم الاساتذة في المدارس الخاصة ليسوا تربويين ولم يدرسوا سايكولوجية التعليم ولا ادارة الوقت ولا التعامل مع الاطفال ...ومثال لذلك هناك أستاذ واحد متفوق في الرياضيات لكن لايمتلك أي مؤهل تربوي وهو خريج اقتصاد جامعة الخرطوم يدرس في 60-70 مدرسة وهو كنجوم الشباك تستقطبه المدرسة في الشهر الاول من العام الدراسي ليجلب لها الطلاب ...
خاتمة:
في دولة فقيرة مثل السودان يجب ان تهدف السياسة التعليمية إلى اتاحة فرصة للفقراء ان يحسنوا أوضاعهم عبر الحصول على التعليم الجيد الذي يؤهلهم لسوق العمل ويغير اوضاعهم الاجتماعية، ولكن حسب إفادات ، الخبراء أعلاه، فإن السياسات التعليمية في السودان، لا تحقق هذا الهدف، بل تسعى لنقيضه! اي لتكريس الطبقية والتمييز والتهميش.
تحقيق: أمل هباني