بعد إعادة بعض طلاب الجامعات السودانية المغرّر بهم من تنظيم داعش، وفقدان آخرين انضموا بالفعل إلى التنظيم، عادت الأضواء تنبه إلى هذا الانتماء المشبوه. وبدأت استفهامات تدور عن كينونة هذا التنظيم، وهل هو ماردٌ قديمٌ تم إيقاظه، أم هناك فعلاً اختراق للمجتمع السوداني، وخصوصاً فئة طلاب الجامعات.
قادت إلى هذا التفكير القلِق، والذي قد يشير إلى واقع خفي، صورة نعي لأحد الشباب المنضوين تحت لواء "جبهة النصرة"، باسم أبو الليث السوداني، تم نشرها مطلع الأسبوع الجاري، في صحيفة يومية منسوبة إلى حزب المؤتمر الوطني (الحاكم). يزداد الإعلان الناعي غرابة بالتمعن في الصياغة الفريدة التي تمجّد من فعل الشاب، بجهاده في أرض الشام، وتمنحه الشهادة في صفوف التنظيم، وتصف موته الذي حدث في أبريل/ نيسان الماضي بأنّه اصطفاء إلهي.
خطورة النعي البارز في صحيفة يومية شبه حكومية، يملكها أحد رجال الأعمال المنتمين إلى (المؤتمر الوطني)، يبرز معه التساؤل عن مدى حساسية الإعلام السوداني في تعاطيه مع قضايا التطرف الديني، وسيره اللامسؤول عكس تيار الاستنكار العالمي لفظائع التنظيمات الإرهابية المنافية لمبادئ الدين الإسلامي، والمجافية كل المبادئ الإنسانية.
يعود هذا الوجود المشوّش وبواعثه بالأذهان إلى تداخل التيارات الإسلامية في السودان، وخصوصاً إشارة أحد الكتب التراثية، والذي يُعتبر قنديل المؤرخين السودانيين، وهو "طبقات ود ضيف الله". جاء فيه إنّه حتى قيام مملكة الفونج، كان إسلام أهل السودان صورياً، لم يعرف طريقه إلى كثير من أمور الناس الحياتية، إلّا بعد القرن السادس عشر الميلادي، وذلك بعد قدوم علماء منتمين إلى الطرق الصوفية المتعددة من بعض حواضر الثقافة الإسلامية.
وقد كان ارتباط الناس الوجداني بشيوخ الطرق الصوفية كبيراً، وازداد بتقديمهم الحماية لهم من بطش الحكام وظلمهم، كما كانوا يلجأون إليهم، في مناسباتهم الاجتماعية وأمورهم الخاصة والعامة. والآن، يقف تدين أهل السودان على طرفي هذين النقيضين. الطرف الأول رجال الطرق الصوفية الذين تصاعد بريق شيوخهم مرة أخرى، ولمعت أسماؤهم وازدادت شهرتهم. وبقدر النأي عن وضع حكم قيمي على نجومية الشيوخ، مورّثي الطريقة أو متخذيها، بقدر ما هو مهمٌّ معرفة أسباب استحضار هذه النجومية من الماضي السحيق. أما الطرف الآخر فهم المتطرفون دينياً ويتخذون الجانب التكفيري لمظاهر تدين مشايخ الطرق الصوفية المرتبطة بمناسبات دينية، ولكل من حولهم كذلك.
وإن كان التكفيريون في تنظيم داعش لا يستثنون أحداً، ويخصّون المنتمين للمذهب الشيعي، فإنّ التكفيريين في السودان يقفون ضد الصوفية وضد ممارساتها الدينية التي يعتبرونها بدعاً، ويجب أن يتم تطهير المجتمع منها، وفي أحايين أخرى، ضد بعضهم بعضاً. ولم يكن هناك ثمة صراع حقيقي بين أهل السنّة والوجود الشيعي في السودان، بل صبّ أهل السنّة نيران صراعهم على بعضهم بعضاً، حتى لم يبق من أهل السودان غير وسطيي الإسلام، وهؤلاء خارجون عن النزاعات وضحاياها في آنٍ واحد.
بدأت أحداث التطرف في الظهور العلني، واتخاذ مظاهر الغلو والتعصب والعنف في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، أي بعد استيلاء نظام الإنقاذ على الحكم مباشرة. وغير الأحداث التي يقوم بها شباب، ينتمون إلى الجماعات السلفية تنتهي بالقبض عليهم بعد اشتباكهم مع الشرطة، كانت هناك أحداث مروعة، أدت إلى سقوط ضحايا كثيرين. من أشهر أحداث التسعينيات، ما عُرفت بحادثة "الخليفي"، نسبة إلى منفذّها، وهو أحد العرب الأفغان الذين جاؤوا في معية زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، إلى السودان، وأحد حراسه الشخصيين. ما لبث أن تمرد الخليفي على ابن لادن، وأفتى بقتله. دخل الخليفي في فبراير/شباط 1994 قائداً مجموعة مسلحة إلى مسجد في حي الثورة في مدينة أم درمان. كان ذلك مسجد الشيخ أبو زيد محمد حمزة، وهو الرجل الثاني في جماعة أنصار السنة المحمدية، بغرض تصفيته جسدياً، وعندما لم يجدوه أفرغوا ذخيرة الكلاشنكوف في جموع المصلين، ليسقط عشرات القتلى والجرحى.
ولم ينته المشهد الممتد من العاصمة الوطنية أم درمان، فانتقل الخليفي وأعوانه، إلى حي الرياض الذي يُعتبر من أرقى أحياء العاصمة الخرطوم، وتحديداً أمام منزل أسامة بن لادن، بغرض تصفيته، لكن الحرس الخاص لابن لادن اعترضوهم، وامتد الاشتباك حتى مجيء الشرطة، وتم أسر الخليفي وجماعته، ثم تم تنفيذ حكم إعدامهم شنقاً.
الحادثة الأخرى التي تتداعى إلى ذاكرة السودانيين، وما زالت تقف كأحد الأحداث الصادمة، هي مذبحة الجرّافة في ديسمبر/ كانون الأول 2000، نفّذها أحد جماعة التكفير والهجرة، ويُدعى عباس الباقر، وهو على خلاف أيضاً مع الشيخ أبو زيد محمد حمزة السالف ذكره. تهجمّت المجموعة على المصلين، في جامع أبي بكر الصديق في حي الجرّافة في مدينة أم درمان في أثناء تأديتهم صلاة التراويح. وبواسطة بنادق الكلاشنكوف، قضوا على عشرين مصلّياً، وخلفوا خمسين جريحاً، ولقي عباس الباقر مصرعه في تبادل إطلاق النار مع الشرطة.
وبين قتل المصلين في المساجد، واكتشاف خلايا تابعة لتنظيم القاعدة من جهة، ولجماعات التكفير والهجرة من جهة أخرى، تبرز تفجيرات البعثات الدبلوماسية والسفارات واغتيالات الشخصيات الأجنبية. كان أبرز تلك الاغتيالات مقتل الدبلوماسي الأميركي، جون مايكل غرانفيل، وسائقه السوداني، عبد الرحمن عباس، والتي حدثت في ليلة رأس السنة عام 2006. نفّذ العملية محمد مكاوي وعبد الرؤوف، نجل الشيخ أبو زيد محمد حمزة، الاسم الذي ظل يتردد في كل هذه العمليات. تم القبض على قاتل غرانفيل وصحبه من جماعة "أنصار التوحيد"، بعد تفجير خلية السلمة الشهيرة في إحدى ضواحي الخرطوم، والتي كشفت عن مخازن لتصنيع المتفجرات وتخزينها في أنحاء العاصمة. فرّ قتلة غرانفيل من سجن كوبر شديد التحصين في عملية "كسر القيود" الشهيرة، تاركين استفهامات كبيرة حول من يسّر لهم طريق الهروب، حتى يلتحقوا بكتائب المجاهدين بالصومال ومالي.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، شهدت البلاد اعتقال اثنين من زعماء التيار السلفي الجهادي في السودان، هما مساعد السديرة ومحمد علي الجزولي، وهما من حملة درجة الدكتوراه. لم توجه لهما السلطات أية تهمة، ولم تتم محاكمتهما، بل تم إخراجهما من المعتقل، بحجة إجراء حوارات معهما. وبأمر من الرئيس السوداني، عمر البشير، وبنهج علماء من مجمع الفقه الإسلامي، تمت محاورة دعاة التطرف الديني، خلصت إلى نتيجة ذكر الإعلام الرسمي أنّها أكثر نجاعة من المحاكمات.
بمثل هذا التهاون الرسمي، لم يعد هناك مكان للصورة الوردية التي ما زالت تتمسك بأنّ إسلام أهل السودان الوسطي سيقف سداً منيعاً أمام أي اختراق من التنظيمات الإرهابية. ويكاد المطلع على تفاصيل هذه الأحداث يجزم بأنّ هذه الجماعات نسخ مبكّرة من تنظيم داعش، في تكفيره الجميع. وأنّه في ظل الانعدام الأمني بسبب النزاعات وظروف عدم الاستقرار في السودان، فلن يستغرب أحد حدوث ما هو أفظع من قصص أبي البراء المهاجر، الذي قتل في غارة قوات نوري المالكي قرب مدينة الرمادي في العراق، أو أبي حمزة القنّاص، أو أبي يوسف السوداني، وغيرهم من نسخة داعش السودانية.
منى عبد الفتاح
كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.
العربي الجديد