الثلاثاء، 19 يناير 2016

النزوح الجماعي من السودان ..هروب رأس المال البشري ونمو الاقتصاد الطفيلي

 التفاوت الاقتصادي  
*الازدهار يتطلب الاستثمار في رأس المال البشري إن عمال السودان المهرة والمهنيين والذين يمكنهم تقوية الصـــــناعة والتجـــارة في السودان لو تهيأت لهم الفرص والبيئة لأعظم إنتاج اقتصادي ، إنهم بــــدلاً عن ذلـــك يغادرون في جموع هائلة بحثاً عن وظائف أفضل في دول الخليج الفـــارسي .
هذه المقالة تبحث عن ماذا أخذوا وماذا تركوا من خلفهم لنجد أن الطبقة الوسطى تتقلص والعمال المهرة الذين تبقوا في السودان يصارعون في حياتهم اليومية مع ظهـــــور الطبقة المستهلكة الجديدة .
هروب رأس المال :
تم عقد مؤتمر منذ وقت قريب بالخرطوم حيث ناقش المعدل السريع لهجرة العمال
السودانيين المهرة للمملكة العربية السعودية ودول الخليج الفــارسي . إن جـــهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج كشف في تقرير له أنه في العام 2014م فقط أن حوالي 50000 من العاملين السودانيين المهرة هاجروا إلى الخارج ويتضمن
هؤلاء ما يلي :
4979        أطباء وصيادلة
4435       فنيون مهرة
3415       مهندسون
39000   عمال مهرة
كما فقدت جامعة الخرطوم 300 محاضر في العام 2014 م .
إن هذه الأرقام توحي أن نزيف العقول هو أكثر حرجـــاً مما يدركه الكثير من الناس بصورة كاملة وأن البلاد تنزف العمال المهرة بوتيرة أســـــرع بكثير مما كان يٌعتقد سابقاً . بعد ســــــنوات من التفاوت الاقتصادي والضيق الاقتصادي فإن أعضاء الطــــــبقة
الوسطى الفقيرة يبحثون عن تعويض أفضل لمهاراتهم وظروف عمل أفضل خارج البلاد .
إن أحد الأسباب المعترف بها لهذه الهجرة الواسعة هو مشكلة شاملة وعميقة قد تطورت الى الاسوأ على مدى بضعة سنوات :
نقـــص الاستثمار الحكومي في أكثر موارد السودان قيمة وهو رأسماله البشري .
يقول المحللون والمراقبون أنه بالإضافة إلى هروب هؤلاء العمال المهرة فإن عــدداً غير محدود من الصحفيين والعاملين في أجهزة الإعلام هم أيضاً هاربون من بيـــئة البلاد الإعلامية القمعية . إن لجنة الرقابة السودانية على أجهزة الإعلام في جمـــعية
الصحفيين لحقوق الإنسان ( JAHR ) ذكرت أنه ما بين مايو 2014 ومايو 2015م
أوقف جهاز الامن الوطني السوداني ( NISS ) 66 مطبوعة من الصحف السودانية ، وأدانت جمعية الصحفيين لحقوق الإنسان اعتقال الصحفيين
في يوليو . إن المجموعات الدولية لحـــرية الصحافة مثل لجـــنة حمـــاية الصحفيين أشارت للحالات الحرجة في عموم السودان وإلى هذا الحد البعيد في العام 2015م .
مراسلون بلا حدود ذكروا أن السودان في العام 2014م كان واحداً من أســـوأ 10 دول في العالم في مجال حرية الصحافة ، وهو اتجاه تبعه قمع شـــــامل لأجهـــزة الإعلام في العام 2013م .
إن الفقدان الهام للعاملين المهرة والمتعلمين تعليماً جيداً سيكون له تأثيرات فورية وضارة على السودان المضطرب أصلاً بسبب أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية .
ولكن هذه الخسائر هي علامة على اتجاه عميق ، دائم ، ومدمر : 

عجز الحكومة السودانية في الاستثمار في الشعب السوداني .
الاستثمار الضعيف في رأس المال البشري :
إن تقديرات نفقات القطاع العسكري والأمني في السودان تعتبر جدية . الاقتصادي والبروفيسور حـــامد التجاني علي قدّر في مقــــابلة مع إذاعة دبنقا أن الحكـــــومة السودانية تنفق 2 مليون دولار يومياً في الدفاع والميلشيات . وفي بيان الأحـــزاب المعارضة في الخرطوم في يوليو 2015م قدمت تقريراً لتكاليف شهرية تصل إلى 4 بليون دولار لحروب السودان . وذكر بعض المحللين إن الإنفاق العسكري قـــد تجاوز 60 % من الميزانية خلال السنوات الأخيرة ، وبعضهم ذكر إن الإنفـــــاق
العسكري تجاوز 70 % من ميزانية الدولة خلال ال 26 سنة المـــاضــية منذ أن تولى الرئيس السوداني عمر البشير مقاليد السلطة .
إن سياسات الإنفاق في السودان قد تجاهلت الاحتياجات الاجتــــماعية ، وإعـــادة الاستثمار الاقتصادي والبنية التحتية وأدى ذلك إلى فقدان الوظائف والخــــدمات الاجتماعية الأساسية للسكان في قطاعات اقتصادية أخرى . إن البنية التحتيـــــة الفعلية في أكثر الأقاليم سكاناً وإنتاجية على سبيل المثال قد تم إهمالها ولم يــتـم تطويرها لإيجاد خدمات للسكان وفرص اقتصادية للعمال أو بضائع للتصـــدير .
إن نقص التنمية والتدهور يؤثر غالباً على كــل مؤســســـات الدولة ويؤدي إلى صدئها أو إلى انهيارها البطئ أو السريع . إن القطاعات التي شــهدت انحداراً سريعاً وأساسياً هما الصحة العامة والتعليم وهذان القطاعان ساعدا بصـــورة كبيرة في تطوير وتحسين حالة شعب السودان وهما مصدر رأس المال البشري القيم . إن الخدمات والوظائف في قطاعي الصـــحة والتعليم قد انهــــارت . إن المهنيين المهرة قليلو الأجور بشكل عام ذلك أن الجراحين السودانيين من ذوي التدريب العالي يتقاضون ما يساوي أقل من 400 دولار في الشــــــهر . وبما أن الرواتب قد تقلصت ، فإن شروط العمل قد تدهورت أيضاً على نطاق واســـــــع
في الصحة العامة ومؤسسات التعليم مجبرةً الكثير من المهنيين للبحث عن شروط عمل وتعويض أفضل في مكان آخر .
إن العديد من الرسميين السودانيين قد صــــــرحوا أن الســـــودان فخــــور بتزويده للجيران بأصحاب الخبرة من أبنائه وبناته . ويقولون أيضاً أن نظام التعليم بالسودان قادر على إنتاج عاملين جٌدد وخبراء لمواجهة احتياجات البلاد .
هذه رسالة جوفاء حيث أن القاعات لأقدم جامعة في السودان تخلو سريعاً مع فقدان 300 محاضر في غضون شهور . كيف لهذه المؤســســة التعليمية المحــتــرمة أن تستمر لإنتاج عمال موهوبين تحت هذه الأحوال المنحدرة والتي ما زالت قائمة .
إن الهجرة الواسعة للمتعلمين ، الأطباء والعمال المهرة الآخرين و صف طويل من الطبقة الوسطى السودانية زادت بصورة أساسية خلال بضعة سنوات مضت . 
في العام 2014م أخبر السكرتير العام السوداني لجهاز شؤون السودانيين العــــــاملين بالخارج هيئة الإذاعة البريطانية ( BBC ) أن 347000 من العمـــال المؤهلين قد توجهوا للخارج منذ العام 2009م . وذكر أن معظمهم تم امتصاصه في الســــوق السعودية والتي قدّر أنها امتصت عدداً كلياً يصل إلى 2 مليون مهاجر ســـــوداني تقريباً .
التحويلات المالية تتدفق والخاص يربح .
إن عدداً كبيراً من العمال السودانيين المهرة بالخارج يرسلون تحويلات مالية سـخية من رواتبهم إلى موطنهم لأفراد أســــرهم الذين تبقوا في السودان . 
إن معلومــــــات التحويلات المالية الصادرة من البنك الدولي في العام 2014م تشير إلى 189 مليون دولار أرســــلت للسودان من المملكة العربية السعودية و 61 مليون دولار من دولة الإمارات العربية المتحدة و 24 مليون دولار من قطر و 19 مليون دولار من الكويت .
إن البنك الذي يقدّر التحويلات المالية للسودان بمبلغ كلي يصل إلى 73.82 بلــيون دولار في العام 2014م يجد أن السودان استلم مبــلغ كلي قدره 432 مليون دولار في شكل تحويلات مالية ذلك العام . في العام 2014م أرسل العاملون بالسودان مبلغ 322 مليون دولار لدول أخرى بمبالغ أكبر لنيجيريا ( 220 مليون دولار ) ومصر ( 63 مليون دولار ) وإثيوبيا ( 21 مليون دولار ) .      إن التحويلات المالية التي تأتي إلى السودان ليست كمثل التحويلات المالية التي تأتي إلى مصر وإثيوبيا ، ذلك أنها لا تدخل للاقتصاد الرسمي ولا تفيد إلا بالنذر اليســـير النمو الاقتصادي القومي أو الإنتاجية . وبدلاً عن ذلك فإن التحويلات المالية المتدفقة
نحو السودان تخدم على نحو آخر أولئك الذين هم في الســــــلطة القــــادرين عــلـى الاستحواذ عليها .
إن السياسة القصيرة النظر في السودان والتي تستلزم أسعار صرف رسمية متعددة للعملة الأجنبية يقع اللوم في جزءٍ منها على الطريقة التي تتدفق عبــرها التحويلات المالية للمواطنين الخاصين . إن سوق التحويلات المالية هو نفسه مخترق من جانب
ممثلي الحكومة أو الموالين لها والذين يتلقون عمولات ضخمة من الصفقات التـــي تتم من خلال شركة ( حوالة ) بنظام التحويلات المالية الشكلية . 
إن الاستحواذ على عمولات ضخمة من مثل هذه التحويلات المالية النقدية إنما تزوّد أعضاء الحــكومة السودانية بطريق أخر من ضمن طرق عديدة ليستفيدوا مالياً بشكل خاص .
تناقض اقتصادي :
إن النتيجة هو زيادة اقتصاد الظل الطفيلي والذي يفيد بصــــــورة أكثر الأغنياء والأقوياء بينما يرهق الطبقة الوسطى ولا يعمل إلا القليل لمعالجة مجمل الصعوبات
الاقتصادية الكلية والتي جعلت معظم أهل السودان المتأثرين بالصراع مٌهمـــلـــين
وفقراء .
تٌوجد هنا التشويهات الاقتصادية أكثر سريالية وأكثر لفتاً للنظـــر في عاصــــــمة السودان . من الممكن رؤية الفقر المدقع في الخرطوم يطغى على الغالبية العظمى من السكان . هذا الفقر يٌوجد جنباً إلى جنب مع الثراء الفـــاحش و الطبقات الاستهلاكية من
جانب أقليتين متميزتين مختلفتين : ( 1 ) أولئك الذين ينفقون المــال بإسراف من مال الدولة ومن خلال صلاتهم بالحكومة السودانية ، ( 2 ) وأولئك الذين ينفقون بإسراف من التحويلات المالية الواردة من الخارج في أشياء تعطي مظهراً للثراء .
هذا الإنفاق الباذخ يتوسع بينما العمال السودانيين المهرة والمهنيين والذين لديـــهم الإمكانية لتقوية الصناعة والتجارة لفائدة كل شخص يغادرون الســــودان بأعداد هائلة .
 وأما الذين تبقوا من الطبقة الوسطى السابقة هم ظل لأنفسهم سابقاً ، إنهم ينزلقون بهدوء نحو الفقر ويرون أن دخولهم ليســـــت فقط تتقلص وإنما أيضـــاً فرصهم وآمالهم وحصولهم على الخدمات تتقلص على نحو كبير جداً .
خلف واجهات الخرطوم : ظهور الثراء الجديد وازدياد التفاوت الاقتصادي .
بما أن السودان يفقد العمال المهنيين المهرة فإن أقلــية مميزة تزداد غنىً تعـــيش في ثراء تشتري الســـلع الفاخرة من أموال الدولة أو من دخـــل الحوالات المـــالية التي تصلها من الخارج . هذه المقالة تفحص ماذا تم كسبه و ماذا تم فقده وبواسـطة من ،
حيث نجد أن التمويلات ونوعية الحياة قد انحدرت للأغلبية المسحوقة ذلك أن الطبقة المتوسطة السابقة قد انزلقت نحو الظلام .
الخرطوم اليوم :
إن العاصمة المثلثة الخرطوم والخرطوم بحري وأمدرمان هي عاصمة تتمدد لأكثر من 8 ملايين من السكان أي ما يزيد عن ربع سكان السودان البالغ عددهم 30.6 مليون. ويحتاج المرء لست ساعات للوصول من أحد أطراف المدينة للطرف الآخر .
مدينة الخرطوم مثل العديد من المدن الكبيرة الأخرى صاخبة ومزدحمة بالسكان من ختلف الأماكن والخلفيات وممتلئة بالمتسوقين وعملاء المطـــــاعم ينفقون العملــــة الصعبة نقداً على أماكنهم المفضلة التي تبدو جميلة مثل الســـلاســل الأمريكية . إن ســنوات من الصعوبات والعقوبات الاقتصادية التي تم تطبيقها من جـــانب الولايات المتحدة تبدو ذات أثر ضئيل لتثبّط جاذبية أولئك الذين يمكنهم تحملّها من أماكن مثــل ستاربك والدجاج المقلي بكافوري .
ولكن عملاء مثل هذه الأماكن هم جزء من أقلية مميزة صغيرة . إن معظم ســكان المدينة هم من مهاجري الحرب و الفقـــــر والذين يعيشون تحت خط الفقـــــر ولايستطيعون حتى الحصول على ثلاث وجبات في كل يوم وأقل بكثيـر من تحــــمل التكلفة العالية لوجبات الطعام السريعة .
هؤلاء السكان يعيشون في أطراف المدينة ومجموعاتهم تعكس التوزيع الاثني والإقليمي لمحيط البلاد . إن الغالبية العظمى من السودانيين الذين يعيشون على أطراف الخرطوم يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة يوماً بعد يوم .
إن الأمور ليست دائماً صعبة للكثيرين إذ أن هناك أوقات حسنة حيث أن هناك كثيرين عاشوا براحة أكبر .
حتى أواخر العام 1980م كان للسودان طبقة متوسطة مزدهرة ، وكان الناس يتجمعون خارج منزل الأسرة ويشاركون في عشـــرات الأندية الاجتماعــــية والرياضية والمهنية للمهندسين والأطباء والمعلمين والمحاضرين والمحــامين واتحاد العمال . هذه الجمعيات المهنية المتنوعة كانت موجودة بجانب الأندية الاجتماعية والتي جمعت السودانيين مع بعضهم البعض من أصـــول متنوعة مانحةً الخرطوم الإحساس المريح بأنها مدينة عالمية والتي احتضنت مواطنيها من جذور بعيدة أو ساكنين مؤقتين من بٌعد . وكانت هناك أندية ثقافية للأقباط والكاثوليك والإيطاليين والألمان والأمريكان والأرمن والسوريين .
حدث تغيير كبير خلال 30 عاماً . إنّ الأندية المهنية والثقافية الموجودة اليوم هي ظل لماضيها ، فالعديد منها إما تدهور أو أُغلق . إن الناس الذين كانوا منقبل جزءاً من الطبقة المتوسطة الفخورة قد شهدوا أن وســائل حياتهم ونوعــية حياتهم قد انحدرت ، والآن هناك العديد من الناس تقلصت وجبات طعامهم إلى وجبتين في اليوم وهناك العديدون الذين تركوا الســـودان كلياً بحثاً عن عمـــل
أفضل ونوعية أفضل للحياة في مكان آخر .
 الحياة للأثرياء الجدد بالخرطوم :
بينما الطبقة الوسطى السابقة تقاوم في مكانها فقد شهد السودان صــعود نوعين من المنفقين بكثرة والتي تشكل طبقة الأثرياء الجدد : ( 1 ) مستهلكون بمال مأخوذ من الدولة وعلاقات الحكومة التجارية و ( 2 ) ومستهلكون كانوا على مشارف الفقــــر
لولا التحويلات المالية السخية التي تٌرسل من أفراد الأسرة الذين يعيشون ويعملونفي الخارج .
الصنف الثاني من أثرياء السودان الجدد هم المنفقون الفريدون في مجــالات عديدة .
معظم العائلات من هذا الصـــــنف لديها ما بين اثنين إلى أربعة أفــــراد يعمــــلون كمهاجرين في دول الخليج الفارسي ، شمال أمريكا ، استراليا ، أوربا أو آسيا .
كل مهاجر يرسل تحويلات مالية للعائلة في السودان ولكن بدون التنســــيق ما بيـن أنفسهم لضبط مساعداتهم لتغطية الاحتياجات الأساسية لأسرهم . إن التحــويلات السخية التي تصب في دخل الأسرة هي قيمة ثقافية ومسألة اعتزاز ويٌعتبر مخجلاً التحدث عن تخفيض أو دمج المساعدات . وعادةً تتلقى الأسرة في السودان دخــلاً شهرياً يبلغ بضعة آلاف من الدولارات في شكل تحويلات مالية .
إن العائلة السودانية مدعومة بالتحويلات المالية يمكنها رفــع حالــتها ووضــــعها الاجتماعي جزئياً بتوظيف العمال المهاجرين من غير السودانيين ويتضمن النساء الإثيوبيات الصغار للنظافة والطبخ وشخص من أي من أقاليم الســـودان المتأثرة بالحرب وذلك للغسيل ولكي الملابس . ومؤخراً من الممكن مشاهدة أعداد كبيرة من النساء من الفلبين يعملن في الخرطوم كممرضات المستشفيات الخاصـــــة ورعاية الأطفال من خلال العائلات . وبعيداً عن استغلال جهد العامل والعبودية المحلية فإن هذه الترتيبات لها تأثير قليل لتحســــين الإنتاجية الاقتصادية والنمو ومستويات التوظيف في السودان . وهناك العديد من العمال الأجانب في السودان يرسلون تحويلاتهم المالية لبلاد أخرى وتتضمن نيجيريا ومصر وأثيوبيا .
إن كلا ( الأثرياء الجدد ) والمنفقين بإسراف لديهم فائض من الأموال الغير مفيدة لإنفاقها في الأغراض المادية . إنهم يقودون آخر الموديلات من ســيارات ســيدان الفارهة المستوردة من الخارج وليست السيارات التي يتم تجميعها محلياً بالخرطوم بواسطة شركة جياد للسيارات . إن عاداتهم في الإنفاق قد توضح كيف أن البـــلاد التي خبرت الصعوبات الاقتصادية بمقياس السودان تستهلك بما يقدّر ب 2 بلـــيون دولار قيمة لمنتجات التجميل الأجنبية وتستورد كميات ضـــــخمة من الأثاث مــن تركيا ، ماليزيا والصين بالموازاة مع سلع منزلية فاخرة من إيطاليا وأماكن أخرى .
إن بعض هذه السلع تٌعتبر رموزاً للمكانة والحالة الاجتماعية لطبقة من الناس تجاهد إظهار الثراء وتطمح لسمو المكانة والحالة الاجتماعية التي تحققت لأولئك الذيـــن اكتسبوا ثراءهم من الدولة .
ليس في أي مكان يظهر الاستهلاك المفرط جلياً أكثر من ظـــهوره مع التصـــــنيع الكامل الذي تم تطويره لإشباع شهية الترف لطبقة الأثرياء الجدد . هذه الصــناعة تتخصص في المساعدة للتخطيط لاستعراض الثراء المبذّر وتتضمن حفلات الزفاف
الموسعة والتي تستمر لأسابيع و تستلزم عدة احتفالات في الصالات والقاعــــات الخاصة التي تم تزيينها لمثل هذه النشاطات .
خلف أماكن الثراء : الحياة في الخارج عند الأطراف .
وبعيداً عن مناظر الثراء والتشويه فإن أحداً يمر عبر الجيران الأثرياء مع المطاعم الفاخرة للأقلية والتي من الممكن أن تتحملها وفي الطريق خارج المدينة فإن أحداً يمر عبر منازل وبقالات ممتلئة بالمؤن وملتقيات الوجبات السريعة ، الصيدليات ، ومخازن الأجهزة وأعمال تجارية صغيرة أخرى . وهياكل تم بناؤها فوق أحلام المهاجرين السودانيين الذين يعملون بالخارج واستثمارات من التحويلات المالية التي يرسلونها آملين في تحسين حياة أسرهم وأنهم في يوم ما سيرجعون لبلادهم .
في خارج الخرطوم من الملفت للنظر أن ترى ظاهرة الفقر والإهمال والانحدار الاقتصادي الشديد الذي صاحب تركيز الثروة والصناعة في عاصمة السودان .
إن الركن الأساسي الاقتصادي لعدة مدن خارج الخرطوم قد تم تدميره . إن خنق صناعة السكة حديد على سبيل المثال أدى إلى موت عطبرة المدينة الصـــناعية الحقيقية الأولى في السودان منذ أوائل القرن العشرين في الشمال الشرقي لولاية نهر النيل . إن تدمير مشــــروع الجزيرة أحد أكبر المشـــــاريع في العالم لزراعة المحاصيل النقدية قد شلّ مدينة ود مدني في ولاية الجزيرة جنوب شرق الخرطوم .
إن الفشل في حل مشكلات النقص المزمنة في التزود بمياه الشرب قد ســـــاهم في تدهور عاصمة ولاية شمال كردفان والتي كانت أكبر ســـــوق للحبوب في السودان منذ الستينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي .
ما يقارب جميع ثروة وممتلكات السودان موجودة الآن في الخرطوم وبورتسودان ، وهذه قد تم كسبها منذ مدة طويلة بواسطة طاقم صغير من النخبة السياسية والموالين للحكومة وحلفائهم من أصحاب الأعمال .
إن تدفق الأموال من خارج السودان لا تخاطب الخيارات والسياسات والتي أدت إلى خلق الأزمة الاقتصادية في السودان وأدت بشكل ثقيل الجانب ولا يمكن دعمه إلى تركيز الثروة في منطقة رئيسية واحدة وقطاع واحد من المجتمع . إن البلاد تحتاج من قادتها في الأساس السعي إلى سياسات اقتصادية تشجع لتوزيع عادل  للثروة عبر البلاد وقطاعات السكان . إن عمال السودان الراسخين على نحو جيد وحسني التعليم والذين يمتازون بمهارات عالية كانوا محترمين لقرون على امتداد القــــارة والشرق الأوســـــط الواســـع لإبداعهم الهائل ومهارتهم وروحهم الجريئة . 
هؤلاء الناس يتسربون الآن من السودان نحو الشرق الأوسط ودول الخليج الفارسي ليجدوا الفرص والتعويض . أولئك الذين يبقون في السودان ينزلقون نحو الفقر . لقد فقــــد السودان الفرصة لدمجهم في الاقتصاد في مجالات تفيد الصــــناعة والتجارة لكـــل الشعب السوداني .
إن انتشال الناس من الفقر ، وتخفيف عدم المساواة ، وإعادة بناء القوى العــــاملة الوطنية والقطاعات الصناعية ، وأخيراً العودة من الخســـــائر الاقتصادية لنزدهر مرة أخرى يتطلب من السودان أن يستثمر أكثر فأكثر بســـــخاء في أكبر موارده
قيمة - وهو شعبه . وإذا لم يفعل ذلك فهو خسارة لكل فرد .

سليمان بلدو
 مستشار في مشروع كفاية .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق