السبت، 23 يناير 2016

أين الحلقة المفقودة


تحيط حالة من القلق والحيرة مزارعي مشروع الرهد الزراعي وإنتاجهم من محصول القطن الذي يتكوم أمامهم بآلاف الأطنان دون أن يجدوا السبيل لتسويقه أو استلام أرباحه من الجهات التي وقعوا معها شراكة للزراعة التعاقدية، ورغم الإنتاجية العالية لهذا الموسم إلا أن عبء ومخاطر الكساد امتصت الإنتاج.
وتبدو قتامة المشهد أكثر في الأنباء الواردة بتعثر تصدير القطن والبذرة عبر ميناء بورتسودان أو استخدام البذرة، ولما كان الآلاف لا يملكون غير مهنة أيايدهم الشريفة فإن الوضع المعيشي بدأت معالمه تظهر وتنقشع عن أحوال أشد قسوة، وأمور تسوء مع مرور الأيام.
لا يبدو الأمر في قضية الزراعة والإنتاج فقط، فالهياكل التي كانت تحمل هموم المزارعين قد تداعت، ولم تجد اتحادات المزارعين من يدافع عنها، ولم يبرح القانون الجديد بعد من الاستواء على نار التغيير تلمح فيه ندرة التحقق ويرجو آخرون أن يبدو غصنا للمزارع وشجرة يستظل بها من نير جهات عديدة.
1 أطنان الهموم
في ساحة ضخمة كانت ترقد الآلاف من جوالات القطن، وتستقبل بوابات المحالج بمشروع الرهد مئات الشاحنات وهي تنقل القطن من المزارع، بالداخل أصوات المحالج المعطوبة لسنوات تعمل، وبالات القطن هي الأخرى تنصت لأوامر انتظار من يحركها نحو الموانئ والمصانع، شباب يلمسون الآلات وسط الدوي الهائل لحركتها، لكن للأسف بلا أمل فرغم هذه الإنتاجية والعمل لا أثر لابتسامة ظفر، فالإنتاج قابع في مكانه ولا سبيل لأن يتحرك خطوة نحو الجيوب التي أرهقتها ساعات العمل والكد، لا أحد يعلم بالضبط أين الحلقة المفقودة، لكن محفظة لصادر القطن كانت تتكون من (24) بنكا انحسرت مع مفاجآت الإنتاج لحوالي أربعة بنوك فقط، لم يتمكن بعضها حتى كتابة هذه السطور من تحريك دفعات من المحصول بعد تجهيزه لموانئ التصدير فهناك دفعات أخرى لم ينلها حظ السباحة في البحر نحو أي سوق يقبل القطن السوداني الذي طالما تهافتت عليه الأسواق العالمية وطبقت شهرته الآفاق.
2 حسرة بعد عناء
في بداية الموسم كما يحدثني مزارعون، كانوا قد انقسموا بين فئتين في مساحة تتجاوز المائة ألف فدان، اختار مزارعون التعاقد لزراعة القطن مع شركة الأقطان باعتبارها إحدى الجهات المالكة لجزء كبير من بنية المشروع من آليات زراعة وحصاد ومحالج، وآخرون وهم الأغلبية اختاروا التعاقد مع إحدى البنوك، ولما كانت تجربة زراعة القطن المحور وراثيا تجربة بادئة فإنهم انخرطوا فيها بكلياتهم، أصابت بدرجة كبيرة تعاقدية الأقطان وقال المزارعون إنهم استلموا أرباحهم وعائداتهم من الشركة بعد تسليم الإنتاج، بيد أن الأغلبية في الشراكة الأخرى مازالوا ينتظرون صرف الأرباح، وحسب حديثهم فإن البنك المشار إليه لم يبد حتى الآن أي خطوات تجاه تأخر صرف استحقاقهم، رغم وصول الإنتاج إلى المحالج وفرز البذرة منه وتعبئته وأصبح جاهزا للصادر، وفي رأي المزارعين فإن الفترة قد استطالت خاصة وأنهم يواجهون التزامات كثيفة في معاشهم ومحاولة التجهيز للموسم الجديد، لكن بلا أمل أو جدوى وها هم المزارعون يتكبدون مشاق الحضور يوميا إلى مدينة الفاو من أقصى قرى مشروع الرهد الزراعي علهم يظفرون بمن يبعث فيهم الأمل بصرف استحقاقات طالما سهروا من أجلها الليالي وبددتها منهم سياسات اقتصادية خاطئة ليست في مصلحة المنتج إن لم تكن ضده.
3 مهمة ولكن
فعليا أنجز مجمع محالج الفاو "80%" من الكميات المنتجة من القطن هذا الموسم ويقول مدير المحالح أبو القاسم حسن عبد القادر لـ(اليوم التالي) إن إدارته وبصورة مبكرة استطاعت حلج الكميات الواردة لها رغم ضخامتها وكثافتها، ونوه أبو القاسم لزيادة في إنتاجية القطن لهذا العام بخمسة أضعاف من العام الماضي، مشيرا إلى أنهم قاموا بحلج (82) ألف جوال مقارنة مع (18) ألفا من نفس الفترة العام الماضي، فيما تم ترحيل (16.600) بالة إلى ميناء بورتسودان موضحا أن مجمع المحالج الذي تديره شركة السودان للأقطان يتوقع أن يعد حوالي (200) ألف قنطار من القطن لهذا العام، وأشار لتوفير (125) ألف جوال من بذرة القطن، ونوه أبو القاسم لضرورة تسويق وتوزيع الإنتاج حتى لا يتعرض لأي تحديات، وبالنظر للتجارب السابقة في محصول القطن فإنه عادة ما يتعرض لحريق مفاجئ وبالتالي فإن وجوده في العراء بالشكل الذي توضحه الصورة سيتسبب في خسائر فادحة، ولا تبدو الخطورة للقطن المنقول من المزارع بل حتى المحلوج منه أيضا، فالبالات التي تعذر إرسالها لموانئ التصدير تربض هي الأخرى في العراء.
4 "البذرة في محك"
ليس القطن وحده ما يقابل مخاطر التكدس، أيضا في الفناء المعد لاستقبال القطن تصطف الآلاف من جوالات بذرة القطن المحور، في الغالب كانت المصانع مستعدة لشراء أضخم كميات من بذرة القطن لكن زراعة القطن المحور حسب ما يروي لي متعاملون بالذرة "شوشت" كثيرا عليهم، خاصة وأن هنالك تحفظات تجاهها من قبل جمعية حماية المستهلك وجهات أخرى تطالب حتى المصانع التي تقوم باستخدام البذرة لزيوت الطعام بكتابتها في عبواتها "مصنع من بذرة القطن المحور وراثيا"، منتجو الثروة الحيوانية الذين يهتمون أكثر من غيرهم بدوا هم الآخرين حذرين من التعامل مع الآلاف من أطنان البذرة الجاهزة، وكما يروون لي فهم كانوا في جاهزية لاستخدامها ما لم تكن منتجة من قطن محور، وانصرفوا مخافة أن تصيب ماشيتهم بأي نوع من الأمراض، وبطول المساحة الشاسعة ترقد جوالات البذرة بلا مشترٍ محلي أو عالمي.
5 من قرية 18
رغم كل ذلك الواقع الموحش تبدو هنا تجربة متحمسة لمواصلة مسيرة الإنتاج في مشروع الرهد الزراعي، الذي يبدو بين كل سنة وأخرى مثل حقل التجارب، الكثيرون يستعيدون تجربة "كنانة في الرهد" وهي حسب رأي البعض ووقائع التجربة كانت عبارة عن استنزاف لموارد الدولة وإنهاك لقدرات مزارع جرى عليها المثل الشعبي "دخل القش وما قال كش"، ثم ها هم مرة المزارعون ينتظرون مولد "القطن المحور"، من بين ركام المأساة تطل تجربة جمعية "الطائف" الزراعية وهي نتاج لقانون التجمعات الجديد الذي حلت بموجبه اتحادات المزارعين، يقول رئيس الجمعية الطائف الطيب بابكر إنهم دخلوا في شراكة تعاقدية مع شركة الأقطان، رغم أن الأخيرة لديها إرث وافر من التجاوزات في ذات المجال ما يزال يضرب بأطنابه، يقول الطائف إن جمعيته التي بدأت كأولى التجارب في مشروع الرهد الزراعي - الذي يعاني الإنتاج فيه من قضايا الهيكلة والتنظيمات – لتنفيذ خروج الدولة من الإنتاج بصورة كلية، ليتمكن المزارع من إدارة العملية الزراعية لوحده مستغلا قدراته في الزراعة وحتى التصدير، يشير لزراعة "1000" فدان من مجموع "128" مزارعا أعضاء في الجمعية حققت إنتاجية لهذا الموسم بلغت "13" ألف جوال من القطن، حيث بلغ متوسط الإنتاج للفدان الواحد "13" جوالا وهي نسبة حسب رئيس الجمعية تجاوزت الإنتاجية المعتادة للفدان بكثير، يقول الطائف بابكر إن جمعيته صرفت مقابل موسم إنتاجي كامل ما قيمته أربعة ملايين جنيه كتمويل لتحضير الأرض والسماد وصرفيات وحتى مدخلات إنتاج، وحققت فائدة قيمتها ثمانية ملايين جنيه بواقع "30" ألف جنيه أرباحا للمزارع الواحد، يؤكد رئيس جمعية الطائف بقرية "18" بالفاو أن الجمعية ستتوسع هذا العام في مساحة "5" آلاف فدان بإضافة عدد كبير من المنتجين، فيما يشير إلى أن الجمعية استطاعت اكتساب سمعة إنتاجية طيبة من خلال توزيع الأرباح والالتزام بالإنتاج وسداد التمويل والإشراف على الزراعة، ويرى أن قانون الجمعيات يعوزه الآن الضمان بصفة الجمعية الاعتبارية حتى يتمكن المزارع من إدارة العملية الزراعية بمفرده كونه يملك الأرض والعمالة والإشراف، فيما يبدي معتمد الرهد محمد عبد العزيز حماسا كبيرا للجمعية ويؤكد مساندته للقانون الجديد باعتبار أنه يرأس اللجنة العليا لإنشاء الجمعيات، ويكشف عن إعداد ملفات "400" جمعية مؤهلة الآن لنيل الصفة التنظيمية الجديدة للمزارعين وهي الخطوة الأهم حسب ما يرى المعتمد في إطار التخلص من أي حمولات وأعباء على الإنتاج، ويبدو التداخل بين المزارع وشركائه في مشروع الرهد الزراعي أحد أكبر معيقات العمل حسب رأي المزارعين أنفسهم، ففضلا عن عدم الثقة الذي ينتاب المزارع من شريك قد لا يفي بتمويلات في آجالها المحددة وغير قادر على تسويق إنتاجه بما يضمن له سعرا مجزيا واستمرارية في مهنته، فإن الشركاء أيضا لديهم تحفظاتهم على مزارع تقليدي قد لا يحقق الإنتاجية اللازمة، وهي علاقة مشوبة بالحذر بإمكان الجمعيات أن تحلها بإدارة واحدة من خلفها المزارعون.
6 الوضع المعيشي وآخر الكلام
ما يجب أن تنظر إليه الحكومة بعين الاعتبار هو أن مزارع مشروع الرهد لهذا الموسم يواجه انتكاسة كبيرة، وفاجعة أليمة بسبب توسمه في القطن قبل أن يقصم ظهره بكساد منظره مؤلم، وستنعكس تلك الأوضاع وقد انعكست فعلا على حياته المعيشية، وتبدو الأوضاع في أنحاء المشروع لا تسر، خاصة إذا ما تواصل الكساد بصورته الحالية

اليوم التالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق