الأربعاء، 27 مايو 2015

أعطوني تفسيراً واحداً لهذا .. غير العنصرية !

معركتنا مع هذا النظام الفاشي معركة وجود على الصعيدين: وجود ما تبقى من خارطة بلد كان– حتى مجيء هذه العصبة من المغامرين- شبه قارة ، ووجود أمة كانت تسعى بجميع كياناتها المختلفة – لتصبح أمة ذات سيادة بين أمم الأرض. كنّا قبلهم لا نخشى على بلدنا من تعدد أعراقه وثقافاته ولغاته وسبل كسب عيشه. بل كنا نحسب ذلك التنوع مصدر قوة ومنعة مثلما هو الحال بالنسبة لشعوب صعدت مدارج الرقي بوحدتها وتماسكها من خلال التنوع. كنا بكل ضعف حكومات نخب المركز يحدونا الأمل بأن نكون أمة تحتل مقعدها بجدارة بين الأمم.

ثم جاء هذا النظام من نافذة الهوس الديني..إضافة إلى شعارات رفعتها قبله حكومات نخب المركز منذ فجر الاستقلال. بيد أنّ نظام (الإنقاذ) أضاف "بهارات" المعطى الديني معمقاً بذلك الهوة منذ البداية بين المسلمين وغير المسلمين في بلد تختلف أغلبيته المسلمة ذاتها في رؤيتها للإسلام والسعي إليه. وحين قلت بأن هذا النظام امتداد لهيمنة نخب المركز ليس إلا ، ذلك لأن النخب الحاكمة على مدى أكثر من ستة عقود لم تر من خارطة البلاد وهموم مواطنيها أبعد من أرنبة أنفها. النخبة المركزية لم تر من معاناة الملايين في أركان السودان الأربعة إلا النذر اليسير. لكن نظام الإسلامويين جاء بما لم تستطعه الأوائل ! استخدام الوازع العنصري كترياق لتمزيق الكيانات العشائرية التي يتكون منها غرب السودان بالتحديد من الجنينة ورهيد البردي مروراً بالضعين والمجلد ولقاوة وكادقلي وانتهاء بالفيض ام عبد الله وكاودا في جبال النوبة..إنّ استخدام نظام الإنقاذ لسياسة فرق تسد بهذه الكثافة لتمزيق النسيج الاجتماعي بين إثنيات تمازجت وتعاشرت منذ مئات السنين لإعادتها إلى مربع عصور الغابة والتوحش لم يكن مصادفة .. بل هو ثقافة تشبعت بها نخب المركز الحاكمة حتى لتكاد تقتلها التخمة!

إنّ (مثلث حمدي) الذي يؤطر دولة المركز بحدود تبدأ بأقصى الشمال النيلي وتنتهي بسنار وشمال كردفان - هذا المثلث - لم يكن وليد الصدفة. إنه أشبه بالورم السرطاني في أدمغة نخب المركز على تعدد إدارات حكوماتها. لكن عبد الرحيم حمدي وجماعته كانوا أكثر جرأة ، بل ربما كانوا أكثر غباءً أن أفصحوا عن (المدسوس)!!

لم ينبر فرد من مثقفي المركز وساسة وأحزاب الخيبة ليكشف عن خطل مثلث حمدي الذي أفصح عنه في ورقة قدمت في مؤتمر جامع للإسلامويين ونشرت وقائعه على الناس عبر الإذاعات المسموعة والمرئية. وكانت فكرة المثلث الجهنمي ستمر في صمت مثلما هي في عقول الكثيرين من مثقفي النخب الصامتة صمت القبور لو لا أن انبرى له أحد علمائنا الباحثين الثقاة ، هو الدكتور صديق امبدة – رئيس قسم الاقتصاد سابقا بجامعة الخرطوم - والذي كتب مقالا فضح فيه ورقة حمدي؟

بعد أن وقعت نيفاشا ، وأصبح فصل الجنوب عند الٌإسلامويين مسألة وقت ، أدار النظام ماكينة حروبه التي لا تنتهي. هذه المرة في الغرب (دارفور وجنوب كردفان) ثم ألحقهما جنوب النيل الأزرق. لقد كانت طبيعة إدارة الحروب هذه المرة جديدة على الفهم السوداني: حرب بدأها النظام بشراسة من يبيد ولا تأخذه شفقة بالناس والحيوان – خاصة في دار فور وجبال النوبة! وتسير بمحاذاتها بخبث ومكر لعبة حروب القبائل التي ما تنتهي بين قبيلتين متجاورتين إلا وتنشب بين عشيرتين أخريين بينهما صلات نسب وقربى. حتى إذا وصلنا حرب الرزيقات والمعاليا التي ما يزال غبارها يملأ الأفق رأينا العجب العجاب: رأينا جيش الدولة الذي يحرس آبار النفط لا يتحرك وأمنها النشط في قمع تظاهرات الشباب بوحشية يعطي قفاه للأحداث وكأنما الذي يجري لا علاقة له بأمن الناس وأمانهم! ليس ذاك فحسب ، بل ولأول مرة تدخل الأسلحة الثقيلة (الهاون) - والتي يفترض ألا يملكها إلا جيش نظامي – لأول مرة تدخل حلبة صراع بين قبيلتين بينهما صلات متينة ووشائج قربى. ويسقط العشرات – بل المئات ومنهم مدنيون عزل ونساء وأطفال. وبعد انقشاع غبار حرب (داحس والغبراء) يعلن النظام أنّ الجيش سيقوم بجمع الجثث الملقاة في أرض المعركة! أهؤلاء جنود يلبسون شرف الجندية لحماية الوطن والمواطن أم عاملو قمامة؟
ويأتي نظام الخرطوم ببدعة أخرى في حربه في غرب السودان: تأجير مرتزقة جلهم من أبناء غرب السودان نفسه، وبعضهم من دول غرب افريقية مجاورة. ومن بين أسلحة حرب الارتزاق أن يقوم الجنجويد باغتصاب النساء وخاصة القاصرات. وذاك سلاح نفسي القصد منه الحط من الكرامة الإنسانية.

ثم إعلام النظام الأخرس (إذاعة وتلفاز وصحف) لا يرى ولا يسمع!! فالحرب من جنينة الأمير تاج الدين حتى كاودة الشهيد يوسف كوة مكي بعيدة جدا عن الخرطوم .. هي هناك في مكان بعيد جداً. وهي لا تهم أحداً ما دامت مباريات هلال مريخ والحفلات التي يرقص فيها الناس بجنون تعطر ليل الخرطوم. نفس سيناريو ما عرف بحرب الجنوب.. إلى أن صار الجنوب دولة أخرى وصار إخوتنا الجنوبيون شعباً آخر.

لن تقدر عصابة الإنقاذ التي تقوم بكل هذا الدمار في غرب السودان وفي جنوب النيل الأزرق أن تفعل هذا في مسافة بين قريتين في الشريط النيلي من كوستي إلى حلفا. يمكنها أن تطلق النار وتقتل متظاهرين عزل كما حدث في انتفاضة الشباب في سبتمبر وفي بورتسودان وكجبار ..أما أن تحوم طائراتها على مدار اليوم لتقوم بغطاء جوي لخيول المرتزقة ، يقتلون ويغتصبون وينهبون، أو أن يقوم نظام على مرأى من سكان عاصمة البلاد بانفراد بلطجية أمنه وعصابات طلابه في الجامعات بمطاردة طلاب موقع جغرافي بعينه يقتلون ويشردون فذاك ما لن يجرؤ عليه عمر البشير وزبانيته إلا في رقعة الأرض العريضة والبعيدة الممتدة من الجنينة ورهيد البردي حتى كاودا وخور يابوس! وما دام جل ما يفعله المثقفون الثوريون والوطنيون هو (وقفة احتجاجية) تضامناً مع الضحايا ، وما دام بعض مثقفي السودان يقولونها صراحة أن نظاماً يفعل كل هذا أفضل عندهم من أن تصل الجبهة الثورية الخرطوم كفصيل ثوري سوداني ، وما دام هناك مثقفون آخرون يصابون بحكة جلد وصداع نصفي لأننا قلنا إن هذا النظام عنصري ويفرق بيننا نحن أبناء هذا الوطن ويجب أن نسارع بالثورة الشعبية عليه ونودعه سلة مهملات التاريخ وما دام هناك مصابون بمرض الثقافة ويعترضون على مجرد أن نقول أن الذي يجري في السودان اليوم عمل عنصري إجرامي تديره عصابة المركز المتأسلمة ويصمت على جرائمها كثيرون منهم من يدعون أنهم يناصبونها العداء .. ما دامت الأمور تسير بهذا الشكل .. فإنني أقول لهم : أعطوني تفسيراً واحداً لهذا غير العنصرية!!

فضيلي جماع
fidajamb@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق