الأحد، 14 يونيو 2015

مملكة (الشماسة)..الأسرة المتهم الأول والأخير..!!




أحسن نأكل بواقي المطاعم ونشرب من أزيار السبيل أفضل لينا من الذلة والإهانة البتطلعنا من بيوتنا
تحقيق: ضفاف محمود
الشماسة بشرٌ مِنّا ومثلنا تماماً، هم مجتمع متكامل من البنين والبنات، لهم قوانين وقواعد ونظم وأفراح وأتراح ومشاكل، يختلفون منا فقط في كيفية عيشهم ومسكنهم ومأكلهم، حتّمت عليهم ظروف حياتهم القاسية العيش في الطرقات والأسواق والأزقة، يقضون حياتهم بكل حرية وبلا مبالاة، بعيداً عن القيم والمثل والأخلاق والأعراف المتبعة في المجتمعات المتماسكة والمحافظة، ديدنهم الفوضى واللا مبالاة والانفلات، قانون الغاب هو قانونهم، (القوي يأكل الضعيف) ولغة ( الراندوك ) لغتهم، طعامهم فتات و( كرتة ) المطاعم ومائدتهم المفضلة من القمامة، شرابهم وإن كان الماء أساسه، إلا إنهم لا يتورعون عن تعاطي كل ما يُفضي إلى السُّكر وتعاطي الشراب المحرَّم، السلسيون وكل أنواع ومسميات المُسكِّرات غاية مطلبهم، ولا يتوانون في تعاطيها أمام الملأ، وعلى عينك يا شُرطة.
هذا المجتمع الغامض والبعيد عن اهتمام الناس والمسؤولين، شدّني بقوة، وطالما فكرت في وسيلة تدخلني إلى هذا العالم المجهول، ودون مقدمات قررت الولوج إلى عالم الشماسة واقتحامه، رغم علمي التام بصعوبة المهمة ومخاطرها، وبالفعل بدأت رحلتى إلى أقرب مقر للشماسة وذلك بحي بانت الأُمدرماني الشهير، بالقرب من الطريق المؤدي إلى المهندسين والفتيحاب، حيث وجدت العشرات منهم يقطنون في بناية تحت التشييد وفور وصولي للمقر، لم أتوان في التعرف على – زعيمة، بل قل- ملكة الشماسة بذلك الموقع الشهير وهو اسمها الحقيقي، وجدتها فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، أم لبنت اسمها إسلام وولد صغير يبلغ من العمر عامين اسمه إبراهيم. سألت ملكة بيتر .. متى جئتِ إلى أم درمان؟، أجابتني: إنها من إحدى القبائل الجنوبية ومن مواليد أم درمان حي العمدة، توفي والدها وهي في بطن أمها وتوفيت والدتها عقب انفصال الجنوب مباشرة، لم أجد صعوبة في محاورتها، بل و( مصاحبتها)، ولم تتوان هي في التجاوب معي والإجابة على كل أسئلتي وبكل أريحية كانت قطعاً مفاجأة لي..!!.
وقالت لي: إنتِ يا ضفاف النيل زولة أصيلة ، ( أها كبي الحنك يا فردة )، أخبرتها أنني على صلة ببعض المنظمات وأعرف أحد مدرائها وسأتوسط لديه لإعانتكم، فقط أريد معرفة سبب مجيئك والشباب (ديل) للعمارة دي، ووعدتها بحل مشكلاتهم، إن شاء الله، وذهبت إلى بقية الشباب (سموأل أبو عيون) وسعيد ونسرين وعبد السخي وحسن (وخارم بارم) وكلهم لديهم قصص وحكايات يندى لها الجبين وتقشعر منها الأبدان، والقاسم المشترك بين هذه القصص لا شك هو التفكك الأسري.
تعالوا معي لنبدأ مع ملكة قصتها.
ملكة (الشماسة) تحكي قصتها..!! 
أول ما نطقت واعترفت به لي إنها مدمرة ولا تريد أن يصير (عيالها) مثلها، ملكة التي استنطقتها دون معاناة وسألتها أين أهلك الذين مازالو أحياء يرزقون؟، جاءت إجابتها صادمة، وأن خالتها على قيد الحياة، وإسلام ابنتها تقطن معها الآن بحي القماير، وسألتها إذا كان زوجها موجود وكانت إجابتها أنها لم تتزوج، ولكن من هو أب إبراهيم؟، وكان ردها عليَّ واضحاً، قالت: أبو الكلب بعشوم) قلت لها.. أنا ما فاهمة كلامك ( دا شنو ) معناها يا ملكة، قالت لي: يا أصيلة، أنا ولدت الأولاد ديل من راجلي، واحد كدا من أولاد الـ(.................)، وسألتها هل هناك قسيمة زواج، أجابتني بأن الزواج لم يتم، وبعد أن حملت منه سفاحاً ببنتي الكبيرة طردني من المنزل، وجئت إلى السوق، وبعد ذلك نشأت علاقة قوية بيني وبين سعيد، وهو من ذات طبقة أبناء الشوارع، واكتشفت أن ملكة، تحب سعيد بجنون، وتقولها بالفم المليان إذا زول حاول يأخذ سعيد منها ممكن تطعنوا بسكين، ووجهت لها سؤالاً لماذا هي تتعلق به لهذه الدرجة؟، كانت إجابتها واضحة وإن سعيد هو من يهتم بها هي وولدها، لذلك هي تحبه.
ملكة وبعبارات مؤثرة، طلبت منها أن أساعدها على الزواج من سعيد، لأنها عانت مرارات كثيرة ولا تريد أن يضيع أبناءها مثلها، وقالت لي: يا حبة.. أنا عايزة أتكلم معاك بصراحة ( حا تفهمي الرصة بتاعتي دي ولا أجلي الفهم )، ورديت وعرضت عليها أن تتكلم عن (رصتها) وبصراحة، وكان حديثها مؤثراً ولأبعد درجة وإنها لا تريد ضياع أبناءها مثلها، قالت لي: أولادي ما عايزاهم يطلعوا زي ما أنا طلعت )..أنا مليت من قعاد السوق والكشات والإهانات، عايزاك يا أختي وأنتِ زولة أصلية ( تساعديني أعرس سعيد وأربي أولادي، وأنا أعيش معاه (بالفي والمافي) عشان أقعد في بيتي معززة مكرمة ).
ووجدت الفرصة لكي أعرف ما بداخلها، سألتها.. يا ملكة أنتِ بتشربي شنو؟.. أجابتني: سجاير لورد.. وسعر العلبة ثلاثة جنيهات، وشممت رائحة السلسيون تفوح من فمها وأعطيتها خمسة جنيهات وكانت تتبادل أنفاس السجاير من بقية الشباب الموجودين معنا بالقرب من كوثر بائعة الشاي وطلبنا سبعة أكواب وبدأنا نحتسي الشاي، وتروي لي ملكة ويلات العذاب التي تعاني منها، وسألتها عن صدَّام، وهو أحد الشباب الأقوياء في مجتمع شماسة بانت، وانخرطت في موجة من البكاء وحاولت تهدئتها بصعوبة، وبدأت تروي كيف قتل صدام رفيق دربه حسن بعد أن تشاجرا داخل نادي مشاهدة، وطلب صدام من حسن أن يعطيه ال ام بي ثري لكي يستمع للكرة، ورفض حسن، وبعد فترة وجيزة طلب صدام من حسن أن يقابله خارج النادي، وبالفعل تمت المقابلة خارج نادي المشاهدة، وفجأة استل صدام سكين من بين طيات ملابسه وسدد طعنات قاتلة لحسن حتى خرجت الأحشاء من بطنه ولملمها حسن بيده، وقال لأحد أصدقائه صدام طعني وبعدها لفظ أنفاسه الأخيرة، والقت الشرطة القبض على صدام الذي قتل رفيق دربه حسن، وطلبت مني ملكة مساعدة صدام وزيارته بالقسم الجنوبي، بالطبع لم أعدها بشيء لا ولن استطيع فعله.
ووصفت صدام بأنه شيَّال التقيلة وزول الحارة، لكن الخمرة لعبت برأسه.
بعدها غادرت إلى نسرين بنت الثلاثة وعشرين عاماً، والتي قالت إنها من قرى "الجخيس" غربي أمدرمان، والدها طلق والدتها وهي التي قامت بتربيتها، وأخوها يعمل بالقوات النظامية، عندما تخرج أمها من المنزل يقوم بضربها، وروت لي قصتها عندما خرجت من المنزل أخوها طاردها بالسكين وهربت من المنزل وجاءت إلى سوق الموردة ومن يومها سكنت هناك مع بنات شماسيات، ولاحظت ثلاث ضربات على يدها، سألتها دا شنو يا نسرين؟.. قالت: يا فردة أنا شلت هدوم شدة من واحدة صاحبتي والهدوم ضاعت مني، قالت لي: (أديني حقي) وبعد ذلك بدأت المشاجرة وشلختني ثلاثة شلخات بالموس، وفجأة تدخلت الزعيمة ملكة وقالت لي: البنت دي كانت بين الموت والحياة، وأنا طلبت منها تفتح بلاغ وتشيل أورنيك 8 لكن نسرين رفضت عشان هي صاحبتها من زمان، وقلت لنسرين: أنتِ بتشربي شنو؟.. قالت: أنا بشرب سجاير بس، فقلت لها: أنتِ بتجيبي قروش السجاير من وين؟.. قالت : من الأخوات وبنشتغل في الحلة وكدا.. وكان السؤال حاضراً في ذهني أين أبو البنت الشايلاها دي؟.. قالت: واحد أخونا كدا .. وسألتها عرستيهو؟.. قالت: لا.. لكن ما هو راجلي في دار السلام و( اتلحس ) في حادث حركة.. وقالت بلغة الراندوك: (يا ضفاف النيل أنتِ زولة معلمة أصلو ما معقول تكوني ما ناقشة الرصة بتاعتنا دي يا منقة)..!!
وسألتها ..كيف يا نسرين وصلتي للمرحلة دي؟.. أجابتني بالقول: أول شيء السبب الخلاني اتهان في الدنيا دي أنا قريت لحدي سنة رابعة وبعد ذلك تركت الدراسة نسبة للظروف الأسرية القاهرة ولجأت إلى الشارع، ووجدته الملاذ الآمن بالنسبة للمعاملة التي أجدها في المنزل من قبل أخي ( الراسو ضارب يمشي كولمبيا ويجي يلفها معاي أنا وطلَّع مَيتيني وعذَّبني)، وقلت لها: أنا سأقوم بإرجاعك إلى المنزل مرة أخرى،..ثارت بشدة ورفضت رفضاً باتاً وقالت لي: أخير لي.. الشارع وكشات الشرطة أهون.. لكن البيت لا.
وهنا تدخلت الزعيمة ملكة دون سابق إنذار وقالت: نسرين تقعد هنا لحدي ما يجيها ود الحلال يعرسها لكن ما بترجع البيت يا أختي، وكان سؤالي بذات لغة الراندوك التي يتعاطونها لكي أُشعرهم بأنني استوعبت لغتهم ولكسب المزيد من ثقتهم.. ومنو هو العريس المرتقب يا ملكة الجكس بتاعا دا منو؟.. فردت ملكة بأن، الجكس بتاع نسُّو إسمو أدُّوما، بس يا منقة دايرنك تعرسي لينا، لمينا من الشارع ربنا يكفر ليك سيئاتك وأعمالك الكعبة، بس ربنا يوفقك ويسهل ليك ويبعد عنك أولاد وبنات الحرام.
وبعد أن تناولنا الشاي مرة أخرى براكوبة (كوثر ترطيبة)، دردشت مع عوض وهو من ذات الفئة. 
شاب في مقتبل العمر قذفت به الظروف الاقتصادية في مهب الريح بعد وفاة والده وزواج والدته من رجل آخر، وقال لي: إن المعاملة السيئة التي تلقاها من زوج أمه جعلته يترك مقاعد الدراسة ويلتحق بالشارع الذي وجده خير مأوى وملاذ له،.. سألته.. أنت بتشتغل شنو يا عوض؟.. قال لي: (والله يا فردة أنا بغسل عربات بقيف جمب عوضية سمك والأيام دي شغل مافي).
وقلت له: أنت بتشرب شنو؟.. كان رده غير صادق، وقال: أنا بشرب سجاير بس.. وقلت له: إن ذلك غير صحيح، لأنني كنت أسكن بهذه المنطقة وأعلم أن معظم هذه الشريحة يتعاطون السلسيون والسجاير الأنواع الرديئة منه مثل اللورد والقولد، ولاحظت رائحة السلسيون فائحة منه، وطلب مني أن أجد له عمل شريف حتى يترك السوق والنهب واللطش والمجازفات.
كل هذه الكلمات تندرج تحت قاموس الراندوك، عوض يريد أن يجد عملاً شريفاً لكي يقتات منه وأن يتزوج محبوبته التي أنجب منها طفلاً أسماه ( دامودر ) تيمناً بابن بطلة المسلسل الهندي ملكة جانسي، وأقصى أماني عوض وأصحابه وصاحباته، أن تتحقق رغبتهم في الزواج والاستقرار والسقف الذي يأويهم، ولكن هيهات لي أن أحقق تلك الرغبات والتي هي قطعاً ليست صعبة المنال والتَّحقُّق على القادرين على التمام، وهم بلا شك مسؤولو الدولة وذوو القلوب الرحيمة.
وبعدها تحدث إليَّ السموأل الشهير بـ(أبو عيون) وهو من أقدم الشماسة بحي بانت العريق، وسرد لي قصته بايجاز، وقال إنه ترك المنزل نسبة للمعاملة القاسية التي وجدها من الأسرة، ويعمل الآن (عتالي ) ينقل الأثقال على كتفيه، وسبب مجيئه أنه يقيم بنفس البناية مع هؤلاء الشباب، وقال :"إنهم بتونسو وبفطرو وبشربو شاي وسجاير مع ملكة زعيمة هذه المجموعة، وسموأل له أمنية ويريد الزواج من الجكس بتاعو( أمونة )". وقال لي: أنا داير شغل رسمي من المأذون والبت دي أنا بحبها موت وداير أعرسها الليلة قبل بكره، وهو يسكن أمبدة .
وبحق فقد لمست الصدق في حديث سموأل، ولاحظت أنه متزن في حديثه ويريد أن يتخلص من هذا الواقع المرير، وقال إنه عانى ويلات الحراسات، وعندما تكون هناك سرقة في الحي تأتي الشرطة وتأخذهم، وهذا الشيء لم يعجب سموأل لذلك يريد أن يعيش حياة هادئة وآمنة، حيث إنه لم يجد الأمان في منزل أسرته.
عبد السخي معتصم طفل يافع ابن الأربعة عشر ربيعاً أصوله عربية، سألته من أين جئت يا عبد السخي؟ - ولاحظت ملامحه لا تدل على إنه من الشماسة، طفل وديع وغريب حقاً وسط هذه المجموعة،- قال: إن سبب خروجه من المنزل تعرضه للضرب من قبل شقيقه الأكبر بعد وفاة والده، ولاحظت وسماً على رجله من أثر النار، سألته ما هذا؟.. قال: أخي هو الذي فعل بي ما ترينه عندما ذهبت إلى الحفلة مع صديقي، وأنا كنت أسكن منطقة الجبل دار السلام مربع 8 ورجعت من الحفلة الساعة 12، أخوي ضربني وهددني بالسكين، وأمي ما اتكلمت معاه طلعت من البيت وقعدت في السوق العربي وجاءت واحدة اسمها مشيرة من دار (بشائر) ورجعتني البيت، وقالت لأهلي: تاني الولد دا ما تضربوه، ولم يكترث أحد لحديثها وتكرر موال الضرب مرة أخرى وخرجت من المنزل مرة أخرى وقابلت ملكة وأخذتني لكي أعيش معهم في هذه البناية، وتدخلت ملكة كعادتها مرة أخرى أثناء حديثي مع عبد السخي، وقالت لي: ( دار بشاير مُنفِّرة ولا توجد بها مياه للشرب وكلها ذلة وإهانة وهي تابعة لحماية الأسرة والطفل)، قلت لها: إن بشائر مكان آمن وتمويله من الدولة.. قالت: أحسن ناكل من بواقي المطاعم ونشرب من أزيار السبيل أحسن من الذلة والإهانة البتطلعنا من بيوتنا تاني نلقاها في بشاير، أحسن الشارع فيهو الرحمة وناس الحلة طيبين بتعاملوا معانا بحنية وبدونا ملابس وأكل ومرات بدونا قروش كمان.
لهؤلاء مطالب بسيطة، وهي كيف نعالج هذه الظاهرة الخطيرة التي انتشرت بصورة مخيفة، وفي رأيي للأسرة دور كبير في انتشار هذه الظاهرة التي أصبحت في زيادة مضطردة، والعامل الرئيس فيها هو التفكك الأسري والمعاملة القاسية لأبنائها وفلذات أكبادها، لذلك وجدوا أن الشارع هو المأوى والملجأ الآمن بدلاً من حنان الأمومة الذي ضاع بين طيات الخلاف الأسري والطلاق،.. فمن يحقق أحلام ملكة التي لا تريد أن يعيش أبناءها نفس مصيرها؟ ومن يحقق أحلام عوض وسموأل؟، في الظفر بأسرة مستقرة وهانئة ووسيلة عيش تقيهم شر السؤال وتؤيهم من بلوى التشرد والضياع.

التيار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق