عبدالله مكاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الدخول في جدل المقارنة بين البشير وجوزيف سيب بلاتر، يجدر بنا إبداء بعض الملاحظات حول حفل التنصيب، الفخيم في المظهر والهزيل في المخبر والسيئ الإخراج! وكذلك حول خطابه أمام الهيئة التشريعية القومية. وفيما يخص حفل التنصيب الذي لم أحتمل مشاهدته إلا بضع دقائق، كانت كافية للخروج بإنطباع محبط، ولكن للحق كان متوقع! والسبب الأساس في ذلك، إندراجه في نفس خط او أساليب عمل النظام القديمة، والإحتفالية منها علي وجه الخصوص! أي الصادمة لحس الإحترام والمشاعرة العامة، والمهينة لهيبة الدولة وبدرجة أكبر منصب الرئاسة! كالطرب والرقيص والعرضة. ولكن ما لفت نظري بشدة، وجود مطرب(شافع) وهو يصيح منفعلا، بترديد أحد الأغاني الوطنية، المغتصبة من عهود سابقة، وهو يعتقد أنه يغني(رحم الله الغناء كغيره من ضروب الإبداع، التي أغتيلت مع طلت عصر الإنقاذ المتجهم، او كما عبر الطيب صالح بأنه نظام يفتقد لروح المرح او نظام سيئ المزاج! ونضيف وسيئ الأفعال والأقوال!). بقول آخر، الإحتفال الذي يُراد به إرسال رسالة تطمين، وفتح دورب جديدة وعهد مختلف، لم يفعل أكثر من إعادة إنتاج، لمسيرة الأخطاء والإستهتار والفضائح السابقة، ولكن بصورة أكثر بهرجة وبذخ، في زمن سطوة الفقر وطغيان هول الحاجة. مما يشي بأنه لا تغيير يذكر في الفترة القادمة، ولا عزاء للمتفائلين او حملة المباخر من الإعلاميين او المبررات من السياسيين المتنطعين! أي عهد جديد بمظهر أكثر قدامة ومخبر أشد قتامة، نقطة سطر جديد. بل المجموعة المنظمة للحفل البذخي، يعني أنها الجماعة القادمة المسيطرة، او أقلاه الإحتفال تعبير او إشارة لعقلية وطريقة عمل المجموعة القادمة، وطبيعة تعاملها مع موارد الدولة! ولكن الأهم سعيها وتسابقها المحموم او خضوعها وخنوعها جميعا، بإبداء أسمي آيات الولاء، حرصا علي كسب ود البشير. بمعني، كل المجموعات والأفراد ما دون البشير، قضيتها المركزية، ليست تطوير البلاد او حسن إدارتها او حفظ مواردها من الضياع والهدر والإستغلال الخاص، او تقديم الخدمات العامة لبقية المواطنين، كإستحقاق للمناصب التي يحتلونها ويستمتعون بوجاهتها، فهذه كلها هوامش لا تشغل بالهم! بقدر ما يجهدون أنفسهم ويحطون من قدرها، في سبيل راحة البشير حصريا، وتطمينه علي البقاء في كرسيه الي أبد الآبدين! أي في سبيل هذه القضية السامية، تهون كل غاية وترخص كل نفس. أما ما يستتبع هذه الغاية من منافع وحصانات، فحدث ولا حرج. والمحصلة (كأنك يا ابوزيد ما غزيت) وأن عذاب الفترة السابقة وتضحياتها وخسائرها، هي مجرد بروفات لما ينتظر الشعب من عناء ومشقة ومسغبة، في قادمات الأيام وحالكات الليالي الطوال! وماذا ينتظر، من قصر به نضاله وأبطأت به همته التحررية، وترك الساحة ليرتع فيها الإستبداد وإبنه الشرعي الفساد؟!
والملاحظة الثانية، هي الإرهاق الذي يبدو علي البشير، وهو إرهاق يتعدي الجسد وبطء حركاته، الي التدهور العام الذي أصاب قدراته المتدهورة أصلا! ويمتد الإرهاق ليصيب كل المجموعة المتحكمة، وهو ما يظهر في شكل الإخراج السيئ! بدلالة مشاركة الشافع السالف الذكر، في مناسبة كهذه، ومع الصرف المفتوح الذي أتيح لها! وإحتمال أشياء إضافية، لمن جاهد وغالب الطمام والملل، وأكمل الحفل العجيب، كأعجوبة تستحق التكريم في حفل خاص. وفي هذا دلالة علي أن أعراض التحلل والتفكك وصلت مدي لا يمكن السيطرة عليه، وأن الإنهيار هو النهاية الحتمية، ليس بضغط الخارج(المعارضة) وهو المطلوب والأكثر أمان! ولكن من الداخل، بإكتمال رحلة الهبوط الي أسفل، والإختناق بداء العجز وحصار الفشل. بمعني آخر، حضور الموت البيولوجي التاريخي للأنظمة كما للأفراد، بعد إكتمال دورة حياتها، أي لا فرصة أمامها لتجديد الشباب، سواء بالمماحكة والمماطلة والإرهاب او بالسحر والدجل والتداوي بالقرآن والأحاديث النبوية!؟ وهو ما يمكن التعبير عنه، بإدارة الإرهاق او سياسية الإرهاق او أداء الإرهاق الذي سيسم الفترة القادمة. أي الفترة القادمة ليست خضراء وزاهية كما يحلم البشير ونظامه، ولكنها مرحلة عسيرة، ليس علي الشعب وحده، ولكن علي وجود النظام وبقاءه ذاته. بمعني، هي مرحلة إستبدال الفعل والإنجاز والشفافية، بممارسة العجز الخلاق (لو جاز التعبير)، والفشل المتكرر والإنكار المتواصل، والتشبث بالمناصب والتوسع في إستثمارها الخاص بأقصي ما يمكن! أي هي مرحلة(خراب او تشلع بيت الأب او الأسرة، وأخذ كل كادر إسلاموي او عسكري فاشل او سياسي إنتهازي او مدير فاسد او موظف مرتشٍ، شيلة او عود من هذه التركة!!).
وأيضا من علامات التراجع العام، في منظومة الحكم، والمتعلقة بهذا الإحتفال، هي غياب ملوك وأمراء الخليج عن هذا الإحتفال، بعد أن تشبعت الأجواء بالتأكيدات المرسلة، علي المشاركة والحضور! والتي في الغالب رسخت بناءً علي الظنون، والتي تتغذي بدورها من الأمنيات المراهقة والتطمينات المبنية علي التفسيرات الذاتية، للوعود المحتملة او حمالة الأوجه، والدبلوماسية المنمقة! اللتان تقدمان، لمواجهة إلحاح و(إندلاق) كرامة الإنقاذيين، بطلب الإصرار علي الحضور! وكل ذلك من أجل توسيع مظلة القبول الخارجي، لعل وعسي، يجبر خاطر صدمة الرفض الداخلي المكسور! ويؤكد الشرعية المضروبة والأحقية المطعون فيها، بسبب العزوف الجماهيري عن المشاركة في الإنتخابات الأخيرة. وفي الحقيقة مبعث هذه الخفة السياسية، وللعلم هي سمة أصيلة في الأنظمة العسكرية، خاصة المستندة علي أسس أيديولوجية، كما في الغالب. هو قلة الخبرة مهما إستطالت التجربة، والإمتناع عن التعلم رغم كثرة الدروس والعبر، وإستحالة التطور إلا الي الخلف! والسبب إكتمال النموذج المتخيل. وبما أن نظام البشير، يشكل نموذج معياري لهذه النوعية من الأنظمة، لذا فهو الأكثر تمادي في الغرور والوهم، والتطرف في الخفة السياسية والتعمق في السذاجة السلطوية! وكل ذلك قاده للإعتقاد الخاطئ، أن مجرد المشاركة في عاصفة الحزم(وتضخيم هذا الدور الخاص وشدة تأثيره!) تبيح له التبسط مع أمراء الخليج وقادته، ومن ثم إستجابتهم لكل طلباته ورغباته، وبما فيها المشاركة في تنصيب الزور والبهتان! لتبهته المفاجأة غير السارة بعدم الحضور. ولا يعني هذا أن أمراء الخليج وملوكه، أكثر حكمة وبراعة من البشير، ولكن المؤكد أنهم يمتلكون الحد الأدني من الوعي السياسي، والمعرفة باللعبة الدولية وقوانينها الحاكمة، وحجم المكاسب والخسائر من أي خطوة يمكن أن يخطوها خارجيا. وذلك بسبب إحاطتهم بمستشارين سياسيين من طراز عالٍ، وإحتمال في كل المجالات، يقومون بمهامهم علي أكمل وجه! وليسوا مجموعة متبطلة او مهمشة او إنتهازية، كالتي تحيط بالبشير من كل الجهات! ويوجهها بدلا من توجيهه؟ وهل هنالك حكمة او رأي يضاهي إبداعات البشير؟ أو كما يشيرونه بذلك!؟ المهم، لا يعي البشير ومستشاريه، أنه يمثل الحلقة الأضعف في هذا الحلف! وأنه ليس في وسعه الرفض او الإعتراض، ناهيك عن إرتفاع سقف الطموح بالطلبات. أي هو الحلقة التي تتلقي الأوامر، وتنفذ الطلبات! نظير مبالغ محددة من المال، وبعض المساعدة في الملفات الخارجية العالقة، وقليل من جمل المجاملات والوعود الخلب، وغض الطرف عن أسلوب الثلاث ورقات، الذي يمارسه النظام في علاقاته مع الخليج وإيران والحركات الإسلامية! وهو يتوهم الذكاء وخداع الجميع، وهو في الحقيقة لا يخدع إلا نفسه، كغيره من القوم الضالين. المهم، السذاجة السياسية صورت له، أنه اصبح صديق وند للدول الخليجية، وأنها أصبحت طوع بنانه ورهن إشارته! وهو من هو، في تقديم كل آيات العرفان والخدمات والتعاون، تفوق حتي حدود المطلوب!! والمؤسف حقا، لا يبدو أن البشير او نظامه إستفادا من هذه الضربات الدبلوماسية، ليتقبلا الإعتذارات الواهية عن طيب خاطر او طمع في المزيد من المساعدات، لا أدري، (العلم قد يكون لدي الخبير ربيع عبدالعاطي!). مما يؤكد ليس السذاجة السياسية التي تسم هذه الجماعة، ولكن تبلد حسها السياسي وإنعدام حساسيتها الدبلوماسية. وعموما من وصل السلطة عبر الإنقلاب، لا يتوقع منه الإكتراث لقانون او دستور او سياسة، اورعاية تقاليد دبلوماسية اوعلاقات دولية او مجرد حفظ ماء الكرامة الوطنية.
أما الملاحظات التالية، فهي تتمحور حول خطاب البشير، أمام الهيئة التشريعية القومية. و فيه أطنب البشير في الحديث عن الديمقراطية ونزاهة الإنتخابات، كإستحقاق دستوري! مع إن القاصي والداني، يعلمون أنهاء كانت إستفتاء ضد البشير ونظامه! عبر المقاطعة شبه الكاملة، من قبل الجماهير، المشغولة بتدبير أمر معيشتها من ناحية! ومن الناحية المقابلة، لفقدان صلتها بالسلطة الحاكمة منذ أمد بعيد! بعد أن فُرض عليها الحجر السياسي والوصاية الشاملة والحرمان الإقتصادي من أبسط الحقوق! ليتم نفيها إجباريا من الفضاء العام، المُحتكر حصريا للعصبة السلطوية، المتضخمة دستوريا وإمتيازيا، والمنحسرة إنجازيا ومنفعة عامة. وما زاد الطين بلة، إشتمال الخطاب علي شكر أعضاء حملته الإنتخابية، والذين طوفوا بالبلاد وأكثروا فيها الغش والضلال، او التبشير بالبشير وبرامجه الإنتخابية الإصلاحية وعهده الميمون القادم! وخص بالشكر المشير معاش عبدالرحمن سوار الذهب! ربان الحملة وهاديها!! ومصدر العجب او البلل، هو التناقض الصارخ بين النزاهة المشار إليها آنفا، وبين هذه الحملة الفاسدة! التي وظفت موارد الدولة(الشحيحة علي الحاجات الحقيقية للمواطنين، والتي إتضح أنها متوافرة لاولاد المصارين البيض من أعضاء او مرشحي المؤتمر الوطني، لتغطية نفقاتهم الترفية الترفهية! وعلي رأسهم ملك السلطة والمال البشير!!) وكذلك تم توظيف مؤسسات الدولة للمرشح البشير، دون غيره من المنافسين الشرفيين! رغم عدم حاجته سلفا، لهذا الهدر المالي، والإنتهاك المؤسسي لدواويين الدولة وزمن المواطنين، والإستغلال الإرهابي للعاملين بها! فهذه الواقعة او التعدي، لا تنسف الإنتخابات وتسفه نزاهتها من الأساس، ولكنها ترقي لمرتبة الجرم الذي يعاقب عليه القانون! والعقوبة بالحرمان من الإنتخابات والمشاركة السياسية كحد أدني. بل ومعاقبة كل أعضاء الحملة جنائيا، قبل أن يسقطوا سياسيا وأخلاقيا ووطنيا. والسؤال، هل بعد السيطرة الكاملة علي الهيئة الإنتخابية؟ بل والبيئة العامة للإنتخابات، سياسيا وإعلاميا وإغرائيا..الخ؟ وقبل ذلك، وجود مُنظر سلطاني و(مُحلِل!!) إنتخابي، بدرجة خبير عالمي، كالدكتور الأصم ولجنته الموقرة؟ حاجة لكل هذه الخسائر المادية، والزوبعة الإحتفالية التنصيبية؟!
وأمتد شكره لوحدات الشرطة، لدورها المقدر في تأمين سلامة الإنتخابات! وهذا الشكر بدوره لا أعرف أين نضعه، في خانة الضحك أم البكاء؟! فالإنتخابات أمنت نفسها بنفسها! أي لعدم وجود جمهور مشارك من الأساس! إلا مشاركة الأتباع وبعض المخدوعين بواسطة مقاولين او سماسرة الإنتخابات! وهؤلاء أكثر حرصا علي سلامتها من أفراد الشرطة ذاتهم. بل هم ركن أساس في هذه المسخرة الإنتخابية، ومكاسبهم من حيلتها مضمونة! وتاليا دور الشرطة تمثل حصريا، في هش الطير والناموس ببنادقهم! إضافة الي إنجازات، شرب الشاي والقهوة والونسة الفارغة او عد الحصي، قتلا للملل! وعلي كلٍ، فقد أخذوا مكافآت هذا الجهد المقدر وافرا. وكذلك أمتد شكره للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية ولقوات الدعم السريع!! وما يثير الحيرة حقا في هذه الجزئية، ليس الشكر والدعم المادي السخي، والرعاية الخاصة المترفة، لهذه الوحدات والأجهزة، فهذا من باب المعتاد، لدي الأنظمة الإنقلابية! ولكن تحديدا وضعية قوات الدعم السريع هذه؟ ليس في هذه الإنتخابات وحدها! ولكن كتكوين غريب في هيكلية أو بنية الدولة الوطنية؟! فهل هي قوات مسلحة عادية، وفي هذه الحالة، لماذا لا تدمج في مؤسسة الجيش، وفق قوانينه وتراتبيته ووظائفه؟! أما إذا كانت وحدات أمنية، لماذا لا تنضم إليها بصورة واضحة ومستقيمة؟! أما وجودها بهذه الكيفية الشاذة، وبرضي مؤسسة الرئاسة ودعمها العلني!؟ فهذا يعني أحد أمرين، إما أنها تؤدي عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية! وهذا بدوره يعني، عجز كلتا المؤسستين عن القيام بدورهما! مما يبرر حلهما، وتوفير الموارد المهدرة في الصرف عليهما. او هي تكوين شاذ مقصود، لغرض أداء المهام العسكرية القذرة، دون رادع من محاسبة او ضمير! وهذا بدوره ينسف مفهوم الدولة من الأساس، ويحيلها الي مافيا إجرامية بإمتياز!! ولذلك خصها بالشكر لا يمثل إقرار بدورها الشاذ فقط! ولكن قبل ذلك، منحها سلطات وشرعية أكبر، لممارسة تجاوزاتها بكل إطمئنان! وكل هذا يلغي بضربة واحدة، مفهوم الديمقراطية وإجراءات الإنتخابات، وتاليا أوهام التأمين والنزاهة والتهليل المبذول لهما بكل نفاق.
أما النساء فكان لهن حضورا بارزا في خطاب الشكر والمدح، وتم تعضيِّد دورهن وأداءهن الفعال، في كسب هذه الإنتخابات! وكذلك تم التكرم عليهن بكوتة معتبرة، من المقاعد البرلمانية الوثيرة. ولكن هذا بدوره يثير مجموعة من التساؤلات والشكوك، خاصة عند مراجعة منظور الجماعة الإسلاموية وتعامل السلطات العسكرية، ضد النساء! وطوال مكوثهما القهري علي سدة الحكم. فقد كانت النساء دائما محل إستصغار وإستهجان، وفي أحسن الأحوال كديكور لتحسين وجه السلطة. بل من أجل إهانتهن والتنفيس عن عقدة السيطرة والذكورة وهواجس العار، خصصت لهن قوانين سيئة الصيت، سميت بقانون النظام العام! وهذا دون الإحتقار والتضييق، علي ستات الشاي، ووصفهن بأقذع الألفاظ، وإتهامهن بأسوأ التهم. دون إبداء أي رغبة او قدرة، علي التعاطف معهن او مع ظروفهن المأساوية، التي تسببوا فيها بأنفسهم!! وكلنا تابع مصدوم، تفوه الإسلاموي المدلل، الهندي عزالدين في حقهن، كتعبير عن مخزون الإستعلاء والإحتقار والإستخفاف بهن وبأوضاعهن. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق، ألسن نساء دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان والنيل الأزرق، اللائي تعرضت بيئاتهن للأسلحة الفتاكة والقنابل الحارقة، ويروحن ضحايا لهجمات وحروبات عبثية، نساء أيضاً؟! أليس لنساء معسكرات النزوح حقوق أيضا؟ كنساء البرلمانات المركزية الوسيمة، ونساء الإنتخابات المشكورات في الخطابات الرئاسية؟!
أما حديثه عن طلب المساعدة من المشرعين، لإصلاح جهاز الدولة ومحاربة الفساد وتجديد بنية الدولة ذاتها! فهذه ليست أكثر من دعوة مراكبية، وحماسة خطابية فارغة! لأنه في الأساس، لم تتبق دولة لبناءها او خدمة لإصلاحها! ولم يعد الفساد إنحراف محدود، يمكن السيطرة عليه، ولكنه غول إلتهم كل مدخرات الدولة وقوض مؤسساتها، مما لا يمكن علاجه! خصوصا في ظل نفس السلطات والقوانين، التي أنتجت كل هذا الفساد والعفن! والعناصر التي ولغت فيه بدم بارد وضمير ميت. أي الدعوة لمحاربة الفساد دعوة كاذبة، أريد بها التمويه والأدعاء، بمراجعة الأخطاء ومحاسبة المخطئين، وتخدير الجمهور المسكين. أما النكتة الحقيقية، التي تؤكد روقان مزاج البشير وقدرته العالية علي التنكيت، فهي الشكر الذي وجهه للهيئة التشريعية السابقة، وهي تعالج الميزانية بحكمة وموضوعية، تراعي الآمال المنشودة والموارد المتاحة(يااا راجل!!) أي الحكمة والموضوعية في إعطاء الأجهزة العسكرية والأمنية(70%) من الميزانية العامة، والأجهزة السيادية(10%) من الميزانية! وكل الخدمات التي تقدم لبقية المواطنين، تتصارع وتتقاتل في(20%) المتبقية! وهذا بالطبع علي أحسن الفروض، وتصديق روايات وزارة المالية وهي كذوبة. فموضوعية وحكمة كهذه، يبدو أنها تتبع بالتحديد وبشكل حصري، حكمة او قسمة( رأس الذئب الطائر!) دون تعليق إضافي يفسد رصانة الحكمة ويبطل مفعول الموضوعية! والتي يبدو أنها الشئ الوحيد الذي خرجوا به، من مسيرتهم التعليمية الأكاديمية وخبرتهم المهنية العملية، وكسبهم الأخلاقي القيمي، ورحلتهم التشريعية القاصدة(ونحن بدورنا نقول ليهم ما قصرتو جزاكم الله خير علي هذا الجهد المقدر، ونتمني لكم الإستمتاع بإمتيازات نهاية الخدمة المهولة، ويستحسن كتابة مذاكراتكم للفائدة العامة!). أما الحديث عن إصلاح العلاقات الخارجية، وإعادة الإستقرار والأمن والسلم الداخلي، ونبذ الحروبات والإقتتال الأهلي! أو بعث قضية الحوار من قبرها او إعادتها من دهاليز النسيان، من أجل المتاجرة بها من جديد! فهذا كله يندرج ضمن سياسة(التسوي بي إيدك يغلب أجاويدك!!) التي مارستها الحكومة، بكل غرور وعنجهية وصبينة منقطعة النظير. فهي من بادر بالعداء وقطع العلاقات الخارجية، ودخلت مع الدول الغربية في صراعات طواحين الهواء ومحاربة أشباح الظلام، التي لا توجد إلا في خيالها المريض! وهي من أرسلت التجريدات العسكرية لمحاربة الأطراف، وأحلت لغة السلاح محل لغة الحوار، وتحدت الجميع بمنطق القوة ووسائل العنف! وأدمنت الإلتفاف علي الأزمات بدلا من حلها! وأستمرأت الإستمرار في السلطة بكل الوسائل، وبغض النظر عن الأخطار المترتبة علي ذلك! كتقويض الإستقرار وتعطيل التطور الدستوري والنضوج الديمقراطي والتنمية الشاملة المستدامة، في المحصلة النهائية.
أما الحديث عن تكوين مفوضية للشفافية ومكافحة الفساد، بصلاحيات واسعة، تتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية! فهذه بدورها تشابه قوات الدعم السريع! أي هي قوات دعم سريع لمكافحة الفساد! بمعني آخر، تكوين مثل هذه المفوضية، لا يعني الجدية في محاربة الفساد، كما يتوهم البشير! ولكنه يعني تحديدا، الطعن في مؤسسات الدولة العدلية والقضائية والمراجعية او المحاسبية! وشهادة دامغة من أهلها، بعجزها عن القيام بوظائفها. كما يؤكد من جانب آخر، إنبهام مفهوم الدولة الحديث في وعي السلطة الحاكمة! وتاليا الإستهانة بوظائفها والإستخفاف بتخصصاتها المستقلة، والرقابة المتبادلة بين مكوناتها. أي تكوين مثل هذه الأجسام الموازية لأجسام قائمة، ومن صلب مكونات الدولة، لهو أكبر ضربة توجه لمفهوم الدولة الحديثة! وقبل ذلك، لمفهوم الحكم ودستورية السلطات، والمسؤوليات المترتبة علي كل ذلك. وهي نفسها تعبير جلي عن توطين الفساد، وليس التصدي للفساد! بدلالة زيادة الهدر المالي من دون عائد، عوضا عن تغطيتها علي الفساد، بغل يد الجهات المنوطة بتتبعه، او بالتشويش علي دورها! لأنها لو صدقت في مسعاها، لأستتبعت الإجابة عن سؤال هام، من المسؤال عن الفساد السابق، ومن يدفع ثمن الفساد او العجز عن معالجة الفساد؟! ولماذا تم إهمال نتائج التحقيقات الكثيرة التي أثبتت توافر الفساد، إضافة الي الصمت المريب تجاه المتورطين فيه! وتاليا هي ليست أكثر من وسيلة يتم إستغلالها، لتصفية الحسابات بين أجنحة السلطة المتصارعة! او بالأصح، هي أداة او عصا جديدة في يد البشير والمقربين منه، لتأديب المخالفين او لزيادة السيطرة والتحكم بهم! أي تم تكوينها لمزيد من الإرهاب، وتكريس السلطات في يد البشير.
وكذلك قبل التبشير بالذهب وكمياته المهولة، والوعود الجوفاء بحسن التعامل او التوظيف الجيد لموارده! أين أموال البترول، ولماذا أُسيئ إستخدامها؟ وما هو الضامن للتعامل مع أموال الذهب بالحكمة والأمانة!! وفي نفس السياق تحدث عن الزراعة كقاطرة تنمية محلية! والسؤال ما الجديد في ذلك؟ ولماذا حطم مشروع الجزيرة؟! أكبر مشاريع القارة، ومدرسة للتعلم قبل الإنتاج، وركيزة ليس لنهضة البلاد فقط، ولكن كضامن لها من الجوع والخوف وتثبيت للأمن والإستقرار في ربوعها. بل لماذا أهملت الزراعة أساسا، ويعمل بقطاعاتها المختلفة أغلبية السكان؟! وتتلاءم مع ظروف البلاد ومواردها الطبيعية والبيئية، الأنشطة الزراعية المتكاملة، بشقيها النباتي والحيواني والصناعات التحويلية المرتبطة بهما! هل بعد كل هذا الإهمال والتخريب المتعمد، يمكن تصديق عودة النظام الي رشده، وإيمانه علي كبر، بأهمية الزراعة كقاطرة تنمية بشرية! وإذا صدقنا ذلك رغم صعوبة تصديقه، أين هي الأراضي التي يراد إستثمارها في الزراعة؟! وهل بقيت هنالك بوصة واحدة ملك عام، لم يتم التصرف فيها؟! إلا في الصحاري، وما يقابل ذلك من إرتفاع تكلفة الإستصلاح، والدخول في دوامة تفاصيل حقوق المياه..الخ من معيقات. وهل حقا الزراعة إستثمار مغرٍ؟ بعد تحول الأرض الي سلعة تجارية! وبعد تحول الإقتصاد برمته، لإقتصاد متبطل غير منتج! يقوم علي تدوير الأموال في الأنشطة التجارية الإحتكارية، والإستدانة الداخلية وطباعة الأموال من غير تغطية! أي الدخول في دوامة التضخم، ومخاطر هشاشة الفقاعة الإقتصادية! وبتعبير واضح، إرتهان الإقتصاد بكلياته لأتباع النظام من الراسمالية الطفيلية المتوحشة! الكارهة للعمل المنتج والهاضمة لحقوق وعرق العمال، والمستسهلة الأرباح، من خلال توظيف السياسة والمناصب والعلاقات المصلحية البينية، في الأنشطة الأقتصادية! أي تكبيل الإقتصاد او تشويهه بالسياسة ونفوذ السلطات الحاكمة! بمعني آخر، إنعدام المساحة او الخطوط الفاصلة، بين السياسة والوظيفة والأنشطة الإقتصادية! أي الكل ساسة والكل إقتصاديين او تجار!! ولذلك من الصعوبة بمكان، ضبط الفوضي الإقتصادية الداخلية، بأي معايير إقتصادية علمية او منهجية! او وجود إمكانية لفهمها، ناهيك عن إصلاحها. وللأسف، السياسية كذلك لا تختلف عن الإقتصاد، إن لم تكن هي الأسوأ حظا منه، بل وسبب أساس في ما وصل إليه من دمار شامل. والحال كهذا، يصبح الحديث عن الصناعة او قطاع الرعاة..الخ، هو من باب لغو الحديث او المحسنات اللفظية، التي تطرب السامعين! ولكنها لا تعالج قضية، او تزيل عثرة، علي طريق الإصلاح الشاق الطويل. والدليل الكلام عن الإقتصاد، كله خطب إنشائية ووعود وأمنيات صحيان! تتنافي مع لغة الإقتصاد الصارمة، كأرقام وخطط وبرامج واضحة، لا تحتمل التأويل او الغموض. أما الحديث عن الضائقة المعيشية، والوعد بمعالجتها! فهذا ما يتعارض او يتصادم مباشرة مع طبيعة السلطة والمتسلطين! بمعني، المعاناة هي نتيجة لممارسات السلطة الشمولية الحاكمة، والعقليات الراسمالية الطفيلية المتحكمة، المشار إليها أعلاه! وبسبب إرتهان السلطة بإرادتها للصناديق الخارجية، غصبا عن الجعجعة الإعلامية، التي صمت آذاننا، عن الإستقلال الإقتصادي وتحرير الإرادة الوطنية، والحرب المعلنة علي الداخل، من دول الإستكبار! أي كما أسلفنا، هي إنعكاس طبيعي لعقلية الإستثمار السهل، وتبني آليات المضاربة والسمسرة وتجارة العملة، عوضا عن الدخول في مشاريع إقتصادية، ذات طابع إنتاجي تراكمي، مسنود بإحتياطات أصولية حقيقية. ونتيجة لهذه السياسة القاصرة والإقتصاد المتبطل، بيعت مؤسسات الدولة العامة، لبعض المحاسيب، وما يستتبعها من تشريد للعمال! والسبب في هذا المصير المأساوي، لإصول الدولة ومشاريعها الإنتاجية، والتراجع الإقتصادي والإنتاجي علي كل الأصعدة! إن الإقتصاد علم ومبادئ عامة، لا يعترف بالفهلوة والأعيب السحرة والهواة! أي إما إقتصاد حقيقي وقوي، مع ما يترافق معه، من تطور وتحسن علي كل المستويات، وإما السقوط الشنيع في هاوية الفشل والعجز، وما يترافق مع ذلك، من المعاناة وشظف العيش، للغالبية العظمي من المواطنين، كماهو واقع الآن! ولم تتوقف المأساة الإقتصادية الإسلاموية عند هذا الحد، ولكن رافقها شيوع ثقافة الإستهلاك والكسب السريع، وتدني قيمة العمل وبذل الجهد في الوعي العام! بمعني، الإشكالية لم تتوقف عند بيع المشاريع الإنتاجية، والإستهانة بالخدمة المدنية والمؤسسية فقط! ولكن بشكل أخص، في تغيير ثقافة المجتمع، ودفعه نحو التلطعات الإستهلاكية والثراء السريع، مع ربط المكانة الإجتماعية بحجم الحيازة المالية! وكل ذلك دون المرور، بمرحلة الإنتاج وبناء القدرات والمدخرات، والتدرج في التطور وتقديم الأولويات! وهو ما ساعد بشكل او بآخر، في تعميق المعاناة وتجذر الفساد، ليس في مؤسسات الدولة والأجهزة الحاكمة ومراكز النفوذ فقط! ولكن حتي علي مستوي الحياة العامة والجمهور العريض. وهو الشئ الذي سهل الإنتماء للأجهزة الأمنية، ومنظومات المؤتمر الوطني، سيئة السمعة! وهذا دون قول شئ، عن التضارب الوظيفي وإستغلال المناصب والوظائف للكسب الخاص، لدرجة أصبح فيها من العادي رؤية او السماع عن موظف بسيط(تفتيحة!) يمتلك عمارة وعربة ويتزوج زواج أسطوري من مرتبه المحدود! ولا عجب في ذلك، فلتعامل موظفي الإنقاذ مع موارد الدولة شؤون وفنون! والنتيجة التعامل مع الفساد كشئ عادي او ميزة تفضلية أحيانا! والتعامل مع إفرازاته من الفقر والمعاناة وإنحطاط القيم، كاقدار من الله او حظ سيئ، يطال المعدمين حصريا!! وقد يُعالج ببعض الإحسان او لا يعالج كله سواء، علي حس الإنقاذيين المتبلد.
وكخلاصة لهذه الجزئية، فالإنقلاب لا يعطل التجربة الديمقراطية، ويُدخل الدولة في نفق الإستبداد المظلم فقط! ولكنه يُحدث تغيير جذري في مفهوم الإنقلابيين، للسلطة والدولة والمواطنين، وصولا للقيم الحاكمة للمجتمع! وتاليا يصاب الإنقلابيون بإنفصام الشخصية، وتناقض الأقوال والأفعال، والإستغناء عن الفعل او الأداء، بالوعود والأحلام! وتفسير المعارضة بالخيانة، والعمل المعارض بالتخريب! ويتوج كل ذلك، بالخوف المرضي علي السلطة، كتعبير حصري عن إحترام الذات وحفظ مكانتها المقدسة. والمحصلة، تشويش مأساوي علي مستوي الفهم، وأكثر مأساوية علي مستوي ردات الفعل، تجاه السلطة وبقية المواطنين. وهو ما يبيح تقنين الفساد، وإضفاء ميزات عليه، وعسكرة الدولة، ونشر الإرهاب بطريقة تتناسب طرديا مع حجم القلق علي الكرسي! ويضاف لذلك، توظيف مجموعة مجردة من القيم والوطنية، لتعمل كمساعد للدكتاتور، الذي وصل مرحلة الفرعون! لتبرر الأخطاء والتجاوزات والفشل، وتنفذ الرغبات والتصرفات الشاطحة! وقد تتخذ هذه المجموعة، صفات دستورية او عسكرية او إعلامية او سياسية او تكنو أكاديمة/مهنية..الخ. ويتجسد كل ذلك بصورة جلية في خطاب البشير أمام البرلمان! فهو خطاب شاطح في الإحلام الصحيانية! وينادي بعكس ما قام ويقوم به علي أرض الواقع! بل الخطاب يمثل دليل إدانة وسحب شرعية، إذا ما طبق علي فترة حكم البشير السابقة! كما أنه ليس هنالك دليل، علي صدق ما يحمله من وعود او القيام بما يقدمه من تعهدات! ولكن كل الأدلة تقود الي عكس ما ينادي به الخطاب! او كما علمتنا التجربة الإنقاذوية، طوال تاريخها، القائم علي الوعود الجوفاء والشعارات الهلامية والأعمال الظلامية! لتكرس كل هذا البلاء العظيم، الذي يعد الخطاب بعلاجه! علي إعتبار إن الخطابة هي الإنجاز الوحيد المتاح، أمام نظام الفشل والعجز والدجل الإنقاذوي.
ولكن بعد هذا السرد الأليم! ما هي أوجه الشبه بين البشير وبلاتر التي تبرر المقارنة؟ وفي الحقيقة كلمة شبه، قد تحمل بعض التضليل، الذي يضيف أبعاد إيجابية في صالح البشير! ولكن المقارنة تحديدا، تشمل المزامنة التاريخية لإعادة الإنتخاب، وطول الفترة في الحكم، إضافة لتأثير كل منهما علي المنصب، وخاتمة كل منهما. فيما يخص بلاتر، فهو رجل نال قسطا وافرا من التعليم الأكاديمي الجيد، في أرقي المعاهد والكليات السويسرية. وكان مدخله الي الفيفا، نهاية لرحلة طويلة في الإدارة الرياضية. وفي الفيفا تدرج داخل أروقتها حتي وصل لقمتها. مما يدل علي الطموح، المسنود بالتأهيل الأكاديمي والخبرة العملية، والجدية والقدرة علي الأضافة والإنجازات. والأهم ليس القدرة علي الإقناع، ولكن إعادة الإقناع في كل مرة، لدرجة أصبح فيها كإمبراطور للفيفا او كما يطلق عليه، وهي مهمة شبه مستحيلة في الفضاء العام والعالمي بصورة أكبر. وغير الإنجازات والتوسع في أدوار وأنشطة الفيفا، ورفع سقف مواردها المالية! فقد تميز بلاتر أيضا بقوة الشخصية، لدرجة تصدي فيها للمركزية شبه الأوربية، المسيطرة علي عالم الكرة وتنظيم البطولات! لينفتح بالفيفا علي الأطراف الآسيوية والأفريقية، بإتاحة الفرصة أمامها لتنظيم البطولات العالمية، ورفع عدد فرقها المشاركة، ودعم إتحاداتها ماديا وفنيا، والتصدي للتدخلات السياسية في الشأن الرياضي بحزم. وكل هذه أعمال ليس بالساهل إنجازها، إلا لشخص يمتلك الموهبة والمهارة والصلابة! ولو أن المصالح كانت متبادلة، بين بلاتر من جهة والإتحادات الطرفية من جهة أخري! وهو سلوك لا غبار عليه او مباح في العرف الديمقراطي، إن لم يكن دلالة حنكة وحسن قراءة لإتجاه الرياح. وقوة الشخصية لم تأتِ من فراغ، ولكنها مدعومة بتاريخ طويل من العمل الإداري الرياضي والثقة بالنفس، والمعرفة الدقيقة بدهاليز الفيفا، وتفاصيل عالمها وآليات عملها. وهو ما يذكرني محليا، بالدكتور كمال شداد، وقوة شخصيته وتصديه لأباطرة الكرة المحليين، إدارة هلال/مريخ وإتحاد الخرطوم، ودعمه للأقاليم. وشداد أيضا مسنود بتأهيل علمي، ومعرفة ضليعة باروقة الرياضة وقوانينها، وعلاقاته الإقليمية والدولية العريضة. ولو أنني أعيب عليه العناد وتعظيم الذات أحيانا. المهم، بلاتر أثبت جدارة منقطعة النظير، من خلال إدارته لإمبراطورية الفيفا. ولكن أكبر نقاط ضعفه، تتمثل في الإصرار علي الإستمرار، إعتمادا علي إنجازاته ومقبوليته وعلاقاته الجيدة برؤساء الإتحادات الطرفية! وفي هذه الجزئية، هو شديد الشبه برجب طيب إردوغان، الذي أغراه نجاحه، للتمادي في إستغلال اللعبة الديمقراطية! وهو ما يأتي بنتائج عكسية، كما أثبتت هذه التجارب تحديدا. وما هو ما يبيح وصفه بالإستبداد الديمقراطي! أي إستغلال آليات الديمقراطية، في المكوث في المنصب لأطول فترة ممكنة! وهو ما يتنافي مع الجوهر الديمقراطي، المتمثل في تداول السلطة، لتخليصها من روح الإستبداد والسيطرة والإحتكار! وتاليا إفرازاتها، المتمثلة في التكلس وضمور الحيوية، ولكن يظل أخطرها الفساد! أكبر آفات الإستبداد والتسلط، وأكثرها دمارا للدول وإنهاكا للمجتمعات، وإحتقارا للسلطة! وهو ما أتضح أخيرا، وكان سبب أساس في تقديم بلاتر لإستقالته، بعد فوزه الكاسح بأيام قليلة! وهذا غير الهزة التي سببها، لمظهر وصورة الفيفا في الفضاء العالمي، وأحبط الكثيرين من المناصرين لشخصه! وقبل ذلك للآلية الديمقراطية، كأفضل وسيلة متاحة، للوصول الي السلطة، وتداولها سلميا، وممارسة الرقابة عليها! وما يميز الديمقراطية، أنها قادرة علي معالجة أخطائها، بكل شفافية ودون مغالطات او إدعاءات جوفاء، وتهم هروبية للآخر العدو او المتآمر، او حصانة تحيط بالمسؤولين! أي إن تأخر الحساب لا يعني أنه لن يأتي! ولذلك لا فرصة أمام الشمات الإستبداديين او لوم الديمقراطية بسبب بعض المفسدين! ولكن يحمد لبلاتر أنه كان علي قدر المسؤولية وقدم إستقالته، ولم يصر علي المضي قدما، رغم أن القانون يسمح له بذلك! ولكن روح الديمقراطية والمسؤولية والشفافية، كلها تضافرت ضده، ليعلن إستقالته وينال إحترام الكثيرين. والأفضل من ذلك، أنه إستغل هذه الحادثة للتبشير بتعديلات تطال طريقة إدارة الفيفا. وأتمني أن يحسم خلالها مسألة تداول السلطة، وتقييد منصب الرئاسة بفترتين رئاسيتين كحد أقصي! حتي تزيد من فاعلية الأداء والرقابة والمراجعة، وتجديد دماء ونشاط وطاقة مؤسسة، مسؤولة أساسا عن تنظيم أمور الرياضة، وما عرف عنها، من بناء الأجسام وتمتع روحها بالتسامح والتلاقي بين كل شعوب المعمورة! أي كلغة عالمية يتحدثها الجميع وتفهم بكل اللغات. والقضية الأخري، التي أتمني أن تتعرض لها التعديلات المرتقبة، او ينظر لها بعين الإعتبار، ولو أنني أشكك في ذلك، وهي الحد من طغيان الصناعة وآليات عمل الأسواق، علي رياضة كرة القدم! وذلك بتقليل الصرف البذخي علي اللعبة واللعيبة والمنشآت الرياضية، مع زيادة الإهتمام بالنواحي الفنية والمهارية. وبتعبير آخر، الحد من تغول الراسمالية، بثقافتها الربحية الإستهلاكية، علي عالم كرة القدم، كما يُمنع الإحتكار لبث مبارياتها، وجعلها متاحة، بل مباحة للجميع، في كل أركان المعمورة، بعد هذا التحريم الإحتكاري، من قبل فقهاء المال الجدد!! كما أن أولوية الرياضة، يجب أن تلي المعالجات الإقتصادية والإجتماعية والصحية والبيئية، في كل أرجاء المعمورة. وكل من شاهد نهائي دوري أبطال أوربا الأخير في ألمانيا، قد يكون تفاجأ وشعر بالبهجة والمتعة، من اللفتة الألمانية البارعة، في تقديم حفل نهائي مبسط ومختصر، ولكنه قمة في الجمال والإبداع والحيوية والإنضباط، الذي أُشتهر عن الألمان! مما يدل علي أن المسألة التنظيمية الناجحة، ليست مادية صِرف، وصَرف أموال طائلة دائما! ولكنها تكمن تحديدا، في القدرة علي الخلق والإبداع، والتوظيف الأمثل للموارد فيما يفيد الجميع! والأهم، أن حق الفرجة والمتعة متاح للجميع، وبأبسط التكاليف، ولكن بإستخدام أقصي طاقات الإبتكار والإبداع! شكرا ألمانيا وإتحادها وشعبها.
أما بخصوص البشير، فقد أنفق جزء معتبر من عمره، متدرج في المؤسسة العسكرية. وكان مدخله الي السلطة، عن طريق قيامه بإنقلاب علي السلطة الشرعية! وفي هذا المسلك، خطآن لا يغتفران! أولهما، الحنث باليمين الدستوري والقسم العسكري، وفي هذا خيانة كبري وجرم عظيم، كما تعلمون. وثانيهما، إسقاط الشرعية الديمقراطية، وإحلال المؤسسة العسكرية محلها! وفي هذا خراب للسياسة، وتدني لمكانة المؤسسة العسكرية، في الوجدان الديمقراطي العام. وبما أن تأهيل البشير تأهيل عسكري، وهو مقدر من ناحية عسكرية. ولكنه أبعد ما يكون عن إدارة الدولة، او إمتلاك صفات رجل الدولة، الذي لا يحتاج لأي مساعدة خارجية(مؤسسة عسكرية/انقلاب قبيلة عقيدة ..الخ) لإقناع الآخرين لإختياره او قبوله، او بذل جهد خارق ومحاولات مستميتة، للقيام بمهام إدارة الدولة، بكل مهارة وسلاسة وحنكة! أي مهارة إدارة الدولة او صفة رجل الدولة، موهبة فطرية! تصقل بالمعرفة الأكاديمية والخبرات العملية والممارسة الديمقراطية والمنافسة الشفافة ضد الخصوم. بكلام صريح، مدخل البشير للسلطة كان خطأ، وتعامله مع السلطة كان خطأ مركب! لإفتقاده المؤهلات والمواهب السالفة الذكر! وفي هذا إختلاف بيِّن، بين البشير وبلاتر. أما الإختلاف الآخر، فهو إستمراره في السلطة، وهو بهذه القدرات الضعيفة، كان لأبد أن يمر بوسائل الإكراه، لإفتقاده المقبولية ومهارات القيادة! وتاليا مكوثه الطويل في السلطة، كان عن طريق القهر والإرهاب! وبقاء كهذا بطبعه، لا يستلزم إنجازات تنموية او إبداعات إدارية او إضافات سياسية! بقدر ما يستوجب، تقوية الأجهزة الأمنية والعسكرية والمليشاوية، وبث الرعب بين المحكومين! ولذلك إستمراره في السلطة، كان يعني، المزيد من بناء مشاريع الحماية، وإدمان أساليب الإرهاب والدعاية، علي حساب تطوير البلاد ورعاية مصالح العباد. بل الأسوأ، أن الإستمرار كان عبر بيع مقدرات البلاد من ثروات ومشاريع منتجة، وتَرِكة مهولة من الديون! أي الإستمرار تم عبر الإعتداء علي الحاضر ماديا ومعنويا، وإنتهاك حرمة المستقبل او حق الأجيال القادمة في أن تعيش حياة كريمة! بعد رهن مستقبلها للديون العظيمة وفؤائدها الأليمة، المتصاعدة مع كر الأيام. أي في حين كان بلاتر يبني ويعمر ويطور، كان البشير يهدم ويحطم ويخرب!!
والنقطة الأخري الرابطة بينهما، تتمثل في أدب الإستقالة من جانب بلاتر، ومنطق الكنكشة من جانب البشير. فبلاتر رغم فوزه بطريقة ديمقراطية وقانونية، إلا أنه فضل الإستقالة، بعد أن طالت تهم الفساد أعوانه، رغم أن الأمر ما زال في طور التحقيقات. أما البشير، فواصل سيطرته علي السلطة، عبر إنتخابات قاطعتها معظم فئات المجتمع، يأسا منها ومن منظيميها، وهربا من المشاركة في لعبة الزور، التي تعادل شهادة الزور او أشد إثما! او إكتشاف الشعب الواعي، خدعتها وإنتهازيتها وإتخاذها كوسيلة، لمنح البشير شرعية مفتقدة مسبقا، وبالطبع أكثر إفتقادا مستقبلا! وهذا إضافة الي أن الفساد المحيط بأنصاره وأسرته وشخصه، ليس تهما مرسلة او تجني من قبل المعارضة، ولكنه وقائع مثبتة! أي البشير كان أحق بالإستقالة من كل الأوجه! ولكنه أصر علي الإستمرار، ليس بكل الوسائل غير الديمقراطية وغير الشرعية فقط! ولكن بإهدار مزيد من الموارد، في حفلات التنصيب البذخية و بناء القصور الترفية! وعموما غياب ثقافة الإستقالة، عن خاطر البشير وتراتبيته العسكرية وتربيته التنظيمية، ليس بأمر جديد او سلوك مستنكر! ولكن العكس هو الأصح، أي هو سلوك يتسق مع هذا التكوين القاصر والغرور الجهلوي المركب، وإحساس العظمة الكاذب. ولكن لحسن الحظ، أنه لم يقدم إستقالته، وليس في وارد وعيه ورغباته وأساليب حكمه، تقديمها في أي لحظة من اللحظات! فالبشير كبشار والقذافي وصدام وغيرهم من الطغاة، لا يرون أبعد من حدود، معارفهم وخبراتهم المتواضعة، وطموحاتهم الواسعة الجنونية! بالترافق مع تبلد حسهم التاريخي، وإنغلاقهم داخل كبسولة ديمومة وهمية، حتي تقع الواقعة. وحتي لا نسمع بعد كل هذا الدمار والعناء المجاني، ودماء الشهداء والأبرياء في كل أرجاء الوطن وطوال فترة حكمه! أن البطل البشير قدم إستقالته وركل السلطة بحزاءه! فداءً للوطن وإكراما للمواطنين، وإحتراما للديمقراطية ونزولا لرغبة تداول السلطة. ليلحق بركب المشير سوار الذهب، والتكسب من الوهم الإقليمي والدولي، الذي يصفه بالمتنازل الأكبر عن السلطة طواعية! ولكن السؤال يا مطبلي العالم(عن جهل او غرض او حسن نية كرغبة في إيجاد حالة تعارض مجري الكنكشة السائد في هذه البقعة المظلمة من العالم!) أين يقف المشير المتنازل عن السلطة الآن؟! وماذا كان يفعل طوال الثلث قرن الماضية؟ وكيف يتسني لرافض السلطة والإستبداد والكنكشة، قيادة حملة إعادة أعتي دكتاتور في المنطقة! (آل متنازل آل!).
كلمة أخيرة
هنالك مسألة محيرة في قضية فساد بعض أعضاء الفيفا! فبمجرد الإعلان عن هذه القضية، إلا وأنفجرت الإعترافات من كل شكل ولون وفي جميع أركان الأرض، عن الفساد الذي كان يتم، من خلف أجهزة الرقابة والإعلام والقضاء! أين كان هؤلاء المعترفون النبلاء، قبل إنكشاف ستر هذه القضايا الفسادية الآنية؟! فإعترافات كهذه وفي هذه الظروف تحديدا، لهي أسوأ من قضية الفساد بما لأ يقاس! وغير أن المعترفين يحاولون الإستفادة من إيجابية الإعتراف معنويا، إلا انهم يحاولون في نفس الوقت إستباق التحقيقات، وما يسببه من خسائر وفضائح لأحقة! أيها المعترفون الأعزاء (إعتذاراتكم "إعترافاتكم" ماب تفيدكم العملتو كان بي إيدكم "صمتكم"، كما صدح المرحوم وردي بأشعار سماعين ود حد الزين). أما بخصوص الولايات المتحدة، بطل التحقيقات الأخيرة، والتي بشرتنا بتوسع التحقيقات، لتطال طوال فترة رئاسة بلاتر، أي منذ العام 1998م. لماذا حصرت التحقيقات في هذه الفترة بالذات؟! ولم تضف إليها أقلاه فترة سلفه هافيلانج، وطريقة إدارته لعالم الفيفا! علما بأنه عاصر تنظيم الولايات المتحدة لكأس العالم 1994م! والأهم هل الفساد خاص بالفيفا؟! لماذا لا تطال التحقيقات كل المؤسسات الدولية، من أمم متحدة وبنك دولي ومنظمات مستقلة وهيئات إقليمية وداخلية في كل دولة؟! هل هي بدورها منزهة عن الفساد؟! أم ليس في قدرة الولايات المتحدة الوصول إليها؟! وهل بالضرورة الفساد غير قانوني؟! بل الفساد القانوني والدولي، هو الأخطر والأسوأ والأكثر تحكم وضرر، لأنه يجد القبول او لا يثير الإنتباه، وأحيانا يجد الإشادة! بمعني، أن يكون الصرف الإداري علي علاج قضية ما، يفوق ما يوجه من موارد لعلاج تلك القضية! بتعبير آخر، لا تناسب بالمرة بين طبيعة القضايا وحاجاتها الماسة للموارد المادية، وبين الصرف الإداري المبذول لحلها! هل بتطبيق مثل هذا المعيار او المنظور الأخير، يمكن أن تنجو الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات والصناديق الدولية، من طائلة الفساد؟! وهذا دون قول شئ عن، أن الممول الأكبر للهيئات والمنظمات والصناديق الدولية، هو صاحب التأثير الأكبر عليها وعلي توجهاتها!! وهذا بدوره يقودنا في إتجاه سؤال آخر ولكنه ذو صلة! هل كان يمكن لأنظمة مستبدة ومترهلة، يعتليها طغاة، بكل هذا الفساد والشرور والإستعباد والإهانة لشعوبهم؟! أن تستمر طوال هذه الفترة، دون مساعدة من الخارج بمختلف تكويناته؟! وبالطبع، لا ينفي ذلك مسؤولية الداخل، عن إطالة أمد الإستبداد، والتجاوب مع الفساد، وتأثيراته السلبية المتناسلة.
وإجمالا، بلاتر كان قائد حقيقي رغم بعض أخطائه، أما البشير وبعد الخراب والدمار الهائل الذي خلفته فترة حكمه الطويلة المريرة! فهو لا يصلح بالمرة أن يكون قائد لدولة! ولكنه يصلح وفي أفضل الحالات لقيادة بلدوزر!! ولكن يظل الفرق بين القائد الحقيقي والقائد الشمعي او المزيف، هي القدرة علي إحتمال شمس المراقبة ونار المحاسبة، والإبتعاد عن أوكار الفساد وعلاقات الظلام!! ودمتم في رعاية الله.
mekawy222280@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق