الأحد، 5 يوليو 2015

بعض سكانها خليط من الهنود والأرمن واليونان والأكراد: القضارف.. حكاية مدينة صهرت السودانيين والأفارقة



الخرطوم ـ «القدس العربي»:

تمثل مدينة القضارف السودانية نموذجا للوحدة الوطنية، حيث إنصهرت فيها معظم قبائل السودان، بل تضم العديد من الجنسيات الأفريقية والعربية والآسيوية.
تقع القَضَارِفْ في شرق السودان على ارتفاع 580 مترا (1902.85 قدم ) فوق سطح البحر، وتبعد عن العاصمة الخرطوم حوالي 410 كيلومترات ( 254 ميلا ) شرقاً، وتعتبر واحدة من أهم المدن السودانية من ناحية موقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية والعسكرية ودورها السياسي والتاريخي ونسيجها الاجتماعي، فهي بوتقة تنصهر فيها مختلف القبائل السودانية والجماعات غير السودانية.
وتتوسط أغنى مناطق السودان الزراعية والرعوية، وفيها سوق دولية للمحاصيل خاصة الذرة ومقر القيادة الشرقية للقوات المسلحة السودانية، كما تتميز القضارف بكونها أول مدينة رقمية في السودان.

خلافات حول الاسم

اختلفت الروايات حول معنى لفظ القضارف (بفتح القاف والضاد وكسر الراء) وسبب التسمية، ولعل الرواية الأكثر شيوعاً وسط رواد المدينة هي تلك التي تذهب إلى أن المكان الذي قامت عليه المدينة كانت تقام فيه سوق (وهو ما أكدته أيضاً كتابات المستكشف البريطاني والتر سكوت التي تحدثت عن سوق كانت تقام مرتين في الأسبوع) يؤمها سكان البوادي وتجمعات العرب الرحل، وكان المنادي يعلن دائماً على الملأ عند مغيب الشمس إغلاق السوق، داعياً إلى المغادرة ويقول باللهجة العربية السودانية «اللي قَضَى يَرِفْ .. اللي قَضَى يَرِف» أي، الذي قضى أموره عليه أن يغادر. وأخذ الناس في تداول هذا النداء فيما بينهم عند ذكر السوق، فكانوا يقولون لنذهب إلى سوق «القضى يرف» وبتحريف بسيط اطلق على السوق اسم القضا ـ يرف.
وهنالك رواية أخرى تُرجح سبب التسمية إلى التلال التي تحيط بالمكان وتشبيهها بالغضاريف (المفرد غضروف)، لكن هذا التفسير ضعيف.
ومن الألقاب التي تطلق على القضارف اسم قضروف سعد، حيث يذهب بعض الرواة إلى أن سعد هو اسم تاجر قبطي أسس أول متجر فيها وكان الرحل يفدون إلى متجره فأطلقوا على القضارف في بداية نشأتها هذا الاسم.

سوق أبو سن

وجاء في كتاب «موجز تاريخ السودان» لمؤلفيه هولت ودالي، أن قبيلة الشكرية أكبر قبائل جنوب البطانة في وسط السودان كان تعيش وتحكم أراضي منطقة القضارف المنتجة للحبوب وكان يطلق عليها اسم سوق أبو سن قبل أن تعرف باسم القضارف.
ويوثق للقضارف الباحث الراحل محمود بابكر النور ويقول
«القضارف الجديدة تعيدني لسطور طالعتها قبل سنوات وردت ضمن مذكرات (السير اقوين بل) الذي عمل في السودان (1931 ـ 1945) والذي ألحق عام 1931م مساعداً لمفتش مركز القضارف والتي جمعها في كتاب. وخاصة الجزء الذي أعده الصحافي الراحل بشير محمد سعيد تحت اسم (إدارة السودان في الحكم الثنائي) وقام بترجمته للعربية حسين بيومي، حيث قال عن مدينة القضارف (ذات مظهر أشبه بأفريقيا منه بالبلدان العربية تكثر فيها القطاطي المصنوعة من الأخشاب والقصب والأعشاب لم يكن عدد سكانها حينذاك (1931) يتجاوز خمسة عشر ألف وهم خليط من القبائل العربية والنيجيرية والإرتيرية والحبشية) أما المنطقة التي كان يقطنها المركز كله فقد كان يسكنها نحوا من ثلاثمئة ألف نسمة وكانت مساحتها تبلغ ثلاثين ألف ميل مربع أو ما يقرب من مساحة (اسكتلندا). أما القضارف القديمة فهي سوق ود أب سن الذي أنشأه الشيخ محمد عوض الكريم أبو سن والذي توسط جبال القضارف ليصبح النواة الأولى للمدينة الجديدة (القضارف) التي كانت تتبع لمركز عصّار التابع للحكمدار».

أسماء الأحياء

تشتهر في القضارف ثلاثة ديوم «أحياء» هي ديم حمد والشايقية نسبة لمحمد حمد أبو سن زعيم الشكرية وقبيلة الشايقية بزعامة الحاج عثمان. 
وهنالك ديم النور تيمناً بالأمير النور عنقرة، قائد جيش المهدي الذي عسكر فيه بجيشه قبل الزحف نحو القلابات والحبشة
وهو أحد أبطال الثورة المهدية. وديم بكر نسبة إلى الناظر بكر، ويوجد فيها حي المفرقعات، الذي كان يضم مخازن ذخيرة الجيش البريطاني، ويعتبر الصوفي الأزرق من الأحياء القديمة وسكانه أهل علم ودين، وحي الأسرى تأسس كمعسكر لأسرى الحرب إبان الحرب العالمية الثانية. 
وينتسب حي الملك إلى ملك الجعليين الملك نمر الذي مكث فيه قبل مغادرته للحبشة والتي ذهب إليها لإتقاء حملات الدفتردار الإنتقامية المعروفة في التاريخ وذلك بعد أن قتل الملك اسماعيل باشا حرقا في المتمة واستقر بعد ذلك في الحبشة وأسس فيها مدينة المتمة الأثيوبية على غرار عاصمته في بلاد الجعليين.
وهناك مجموعة أخرى من الأحياء منها: دار السلام، دار النعيم، كرفس، المحروقة، يثرب، قشلاق البوليس (الشرطة)، أبكر جبريل، السيول، وأب فرار، حي المعاصر، الصداقة، ود الكبير، الجباراب، تواوا، الجنينة، حي المطار، والموردة، والعباسية، وحي الناظر وحي بدر وحي الواحة وغيرها.

تنوع سكاني

وإذا كانت المدن تشتهر بآثارها وقلاعها، فإنّ التنوع السكاني هو أكثر ما تتميز به القضارف، ويظهر ذلك بوضوح في عدم هيمنة أي قبيلة عليها، ومن أبرز القبائل التي استوطنت فيها: الشايقية والبني عامر والكنانية والشكرية والضباينة والبوادرة والجعليين والبقارة والمساليت والبرنو والفلاتة والهوسا والبطاحين والفور والحباب، والزغاوة والقرعان والتامة والبلالة والميم واللحويين، كما استقرت فيها قبائل عديدة من دول الجوار وبعض الجماعات والأسر المنتمية إلى بلدان عربية وأخرى في آسيا وجنوب أوروبا ومن هذه المجموعات: الإثيوبيين والأريتريين على مختلف قبائلهم ودياناتهم، والصوماليين، واليمنيين، والمصريين الأقباط والنقادة (من صعيد مصر ) والبانيان الهنود والأرمن واليونانيين والأكراد.
هذا الوضع أدى إلى تنوع الديانات التي يعتنقها السكان وأهمها الإسلام والمسيحية (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنيسة الأثيوبية الأرثوذكسية وكنيسة الروم الكاثوليك والبروتستانت والهندوسية).

الأحباش أكثر إنصهارا
ويصف الكاتب والضابط السابق في الجيش السوداني أحمد طه «الجنرال» إنصهار الأثيوبيين في مجتمع القضارف لدرجة إلتحاقهم بالقوات المسلحة ويقول: «حبش القضارف جزء مهم من نسيجها الاجتماعي، فقد عمل معي في القيادة الشرقية الإخوان (فسها وأخيه قزها) وكلاهما كانا يحملان رتبة (الصول) أحدهما كان مسؤولا عن الشؤون الإدارية، مثل التعيينات والوقود، والآخر كان قائدا للفرقة العسكرية النحاسية، ولم يكونا وحدهما، فقد عمل عدد كبير من أبناء جلدتهما في فرقة العرب الشرقية. كان العم (بيتو ارفايني) والد صديقي (امان واخوانه (ملاكو) المستشار القانوني السابق لبنك السودان) وسلمون المصرفي وشقيقهم الراحل سمير. كان العم ( بيتو) أمهر ترزي جلاليب بلدية في القضارف وخالهم (حنا تسفاي) صاحب أول مكتبه في القضارف عمل معه (محمد طه الريفي وعبدالله رجب ) نظير إطلاعهم على الصحف والمجلات التي يأتون بها من موقف اللواري إلى المكتبة قبل ان يصيروا من رموز الصحافه السودانية. وخالهم عوض زودي من المؤسسين لكلية الشرطة، وابن خالتهم وزوج شقيقتهم (يوسف ميخائيل بخيت ) أول مستشار قانوني مسيحي في القصر الجمهوري في عهد الرئيس جعفر نميري وابن خالتهم الأخرى الاستاذ الولا برهي الصحافي المعروف وخالتهم أببا ابرهة المصرفية التي عملت في بنك الخرطوم هناك في السبعينيات وقريبهم وليم اندريه نجم كرة السلة ومن رواد موسيقي الجاز في السودان».
خور مقاديم

وتلتقي الجغرافيا مع التاريخ في تكوين هذه المدينة وتفردها، وتشتهر بوجود سلسلة من التلال المحيطة بها مع وجود أودية موسمية يطلق عليها محلياً اسم الخيران (المفرد خور) تجري فيها مياه الأمطار في موسم الخريف خاصة عند هطولها في المرتفعات الإثيوبية. ويعتبر خور مقاديم أكبر هذه الخيران، ويجري تجاه الجزء الجنوبي الغربي من المدينة ما بين حي ديم سواكن والرابعة في الجنوب، وحي ديم النور وديم سعد في الشمال، ويشق المدينة بإتجاه ديم بكر شمال غرب المدينة.
فصل الخريف هو «روح» هذه المدينة ومصدر حياتها وتهطل الأمطار التي تتراوح معدلاتها السنوية ما بين 700 و900 مليمتر، وتكتسي فيه الأرض حلة خضراء من الحشائش والأعشاب والأشجار النضرة. تصل أثنائه إلى المنطقة مختلف الطيور المهاجرة من مناطق بعيدة في العالم مثل سيبيريا في روسيا والبنجاب في الهند ومن أهم هذه الطيور طائر البجع المعروف محلياً باسم السمبر.

سمسم القضارف

تعتبر القضارف مركزاً استراتيجياً مهماً جدا لتأمين الغذاء في السودان وتعتمد على الزراعة الآلية المطرية. السمسم من أهم محاصيلها ويعد السودان ثالث أكبر دولة منتجة له في العالم بعد الصين والهند، تعتبر القضارف أكبر منطقة منتجة للسمسم في السودان واشتهرت المدينة عبر أغنية تراثية تسمى سمسم القضارف:
«ياسمسم القضارف
الزول صغير ماعارف 
ياقليب الريد
كلما هديتك شارف»
وتتميز أيضا بإنتاج المحاصيل البستانية التي تشمل الفواكه والخضروات كالليمون والجوافة والطماطم والبامية التي ينتج من مسحوقها الجاف أشهر طعام سوداني وهو «الويكة». 
صومعة الغلال في القضارف هي عبارة عن مستودع كبير لمعالجة وتخزين الحبوب كالذرة والسمسم وغيرها وتم إنشاؤها في عام 1965، بالتعاون مع الإتحاد السوفييتي السابق. 
تبلغ السعة التخزينية لصومعة الغلال في القضارف حوالي 100.000 طن من الحبوب السائبة أي ما يوازي 1000.000 مليون كيس تعبئة كبير.
وتتم التعبئة اليدوية في حدود 1500 كيس في الساعة الواحدة بواسطة عمال الشحن والتفريغ في سبعة مواقع للشحن والتفريغ ويمثل هؤلاء العمال قيمة اقتصادية واجتماعية وثقافية كبرى ولهم حياة فيها كل مقومات الدراما ويطلق عليهم اسم «العتالة».

قطاطي السكن

وأهم ما يميز المظهر العام للعمران في أغلب المناطق السكنية في القضارف هو القطاطي (المفرد قطيّة) وهي بيوت دائرية الشكل تتكون من وحدة واحدة تشكل غرفة، بحيث تتكون الدار التي يحيط بها سور له بوابة رئيسية تفتح على الشارع، من عدد من القطاطي حسب حجم العائلة أو مستواها المعيشي. والمتوسط فيها يتكون من قطية واحدة أو قطيتين للنوم وأخرى كبيرة للإستقبال وإقامة الضيوف، وثالثة صغيرة كمطبخ فضلاً عن غرف أخرى. ويتم بناء القطية من جدار دائري كبير من الطوب الآجر أو الطين حتى منتصف البيت بطول ثلاثة أمتار وله باب واحد ونافذتان صغيرتان أو أكثر ويعلوه سقف في شكل قبة مخروطية قائمة، قمتها في الخارج مدببة ويتكون هيكلها من مواد البناء المحلية كأعواد (فروع) الأشجار السميكة التي يتم ربطها بالخيوط والحبال مع أخرى رقيقة في شكل دوائر ثم تكسى بالقش الجاف. ويتم مسح ثلث السقف المخروطي من الداخل بطبقة من الطين الذي يُطلى بعد أن يجف بطلاء جيري أبيض أو بلون آخر في انسجام مع طلاء الحائط الدائري المبني من الطوب.
يتم تزيين قمة القطية الخارجية بإضافة رأس من القش ملفوف بخيوط بلاستيكية ملونة لتضفي عليها جمالاً معمارياً. وقد يتم رصف أرضية القطية من الداخل بالبلاط ووضع الزجاج على بابها ونوافذها ثم إدخال الكهرباء إليها لتشغيل مروحة أو مكيف هواء وأنوار إضاءة وجهاز تلفزيون، ومؤخرا ازدهر العمران في القضارف وتم تشييد البنايات الحديثة.

بعض سكانها خليط من الهنود والأرمن واليونان والأكراد: القضارف.. حكاية مدينة صهرت السودانيين والأفارقة
صلاح الدين مصطفى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق