السبت، 23 أبريل 2016

القرآن ومعالجة الفقر.. مدخل لاقتصاد بديل

تعهدت جامعة أفريقيا العالمية بتفعيل مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي والتنمية ليضطلع بمهمة البحث في جميع نواحي تأصيل الاقتصاد وإبراز النموذج المتكامل للنشاط الاقتصادي غير الربوي بإعمال الأصول والقيم الإسلامية ، ذلك النموذج الذي يصلح لكافة المجتمعات في العالم· ولم ينتظر السفير الدكتور خضر هارون أحمد عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة أفريقيا العالمية قيام المركز ، بل دعا الأربعاء الماضي بقاعة النجاشي إلى ندوة علمية بعنوان ” القرآن ومعالجة الفقر- مدخل لاقتصاد بديل” وذلك ضمن سلسلة من الندوات تقيمها الكلية ، خاصة وأن قضية الفقر من القضايا التي تشغل الفكر الإسلامي في العصر الحديث بعد أن تبين فشل الإيديولوجيات الوضعية في محاربة الفقر خاصة أن بعض الإحصائيات أوردت أن القرآن الكريم تناول قضية الفقر في 235 موقعاً كما أن السنة المشرفة قد تناولت الموضوع 157 مرة تدور حول رعاية الفقراء والاهتمام بأمورهم· وخاطب الندوة البروفيسور الرشيد عبد الوهاب عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق بجامعة أفريقيا العالمية ، نائب مدير بنك السودان السابق ، ومدير عام بنك فيصل الإسلامي في البحرين السابق ، عضو اللجنة الاستشارية لوزير المالية والتخطيط الاقتصادي ، موضحاً أن الاقتصاد لغة مشتق من عادة قصد، يقال فلان مقتصد في النفقة وأصله بين الإسراف والتقتير ، والقصد في الحكم العدل واقتصد في أمره توسط، أما أصل علم الاقتصاد فمشتق من كلمتين في اللغة اليونانية هما تدبير شؤون البيت وانصرف المعني إلى تدبير شؤون الأفراد والمجتمعات والدول المعيشية، فالنظام الرأسمالي يمجد الفرد ويجعله محور النشاط الاقتصادي، ويكاد يلغي دور المجتمع فيما يلغي النظام الاقتصادي الاشتراكي دور الفرد ويحرم الملكية الفردية على اعتبار أن النظام الرأسمالي القائم على الملكية والحرية الفردية أدى إلى تركيز الثروة في أدي قليلة من الأغنياء مما أتاح لهم استغلال الفقراء ولكن الاقتصاد الاشتراكي نفسه أدى إلى إزهاق روح المنافسة وصادم الفطرة الإنسانية لان الملكية الفردية تمثل عاملاً حيوياً في النشاط الاقتصادي بينما تتمثل أهم سمات الاقتصاد الإسلامي في إقرار الحقوق الفطرية للأفراد في الملكية الفردية والحرية الاقتصادية ولكن وفقط ضوابط وأصول ، لضمان عدم اختلال التوازن في توزيع الثروات، ويمنح الاقتصاد الإسلامي الفرد حق التملك والتصرف ولكن يقيد ذلك بقيود أخلاقية وتهدف الضوابط على الملكية الفردية إلى منع تركيز الثروات عند الأغنياء ” كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” ، كما أنه يوازن بين الملكية الفردية والجماعية على نحو لا تتعارض فيه الحريات الفردية مع مصلحة المجتمع ويعتمد النظام الاقتصادي الإسلامي نظام السوق بتفاعل قوى العرض والطلب ولكن وفق قيم ومبادئ سلوكية مثل منع الاحتكار والغش وتجنب إنتاج السلع الضارة وترشيد الاستهلاك والشفافية في المعاملات وتفشي الصدق أي أنه يهيئ أحوال سوق المنافسة الكاملة· التكليف بعمارة الأرض: وعدد البروفيسور الرشيد أصول الاقتصاد الإسلامي ومنها أن المال مال الله وأن البشر مستخلفون فيه وضمان حد الكفاية لكل فرد من المجتمع إلى جانب تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاجتماعي واحترام الملكية الخاصة بالنساء والحرية الاقتصادية المقيدة بضوابط تحريم الاحتكار والربا والاستغلال علاوة على التكليف بعمارة الأرض· واستعرض البروفيسور الرشيد الإطار الفلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي ، وأوجزها في مبدأ الاستخلاف ومقتضياته وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وهو تحريم إيقاع الأذى بالناس والإفساد في الأرض وقال إنه من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي يعتبر النشاط المعين نشاطاً اقتصادياً إذا كانت له منفعة تبادلية شريطة أن يخلو من الضرر والضرار أو تنتفي عنه صفة الفساد فإن نشاطات ما يعرف في اللغة الاقتصادية السائرة بالاقتصاد الخفي، مثل نشاطات غسيل الأموال والرشاوى والاختلاس يعتبر فساداً في الأرض بما يسببه من أضرار بالمجتمع والأفراد ولا تعتبر نشاطات اقتصادية وفق هذه القاعدة.· وأشار إلى أن العمل والجزاء ضمن الإطار الفلسفي للنظام الاقتصادي إذ أنه من وجهة نظر الإسلام باطل أن يحصل الفرد على جزاء دون عمل ، وقال إن المجال لا يسمح في الخوض في تحديد الآثار السالبة لنظام التعامل بالربا في الاقتصاد الوضعي ، وهو الزيادة بدون عوض ويكفي القول إن الربا ساقط شرعاً ومنهي عنه ومغلظ في عقوبته إذ أن حصول أصحاب المال على فوائد ربوية يمثل خللاً في التوزيع وغبنا لفئات أخرى مثل أصحاب العناصر الإنتاجية الذين لا يتمتعون بعوائد محددة مسبقاً ومؤكدة في كل الحالات كما هو الوضع في حالة الفوائد الربوية التي تحدد سلفا بالإضافة إلى تكريس الكسل والخمول وفقدان جهود أصحاب الأموال· أما قاعدة ” الغنم بالغرم” ، وتمشياً مع قاعدة العمل والجزاء، لا يصح أن يضمن أحد لنفسه مغنماً ويلقي الغرم على عاتق غيره ، فالمدخرون الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية ونهيها عن أكل الربا يعيشون على عائدات مدخراتهم دون المخاطرة باستثمارها ولا يبذلون أي مجهود وبذلك ينالون مغنماً دون مغرم· الفقر النسبي والمطلق: وحول مشكلة الفقر قال البروفيسور الرشيد أن الفقر نوعان الفقر النسبي ويعكس التفاوت في الثروات والدخول وهذا النوع سنة كونية ترجع لقدرات الأشخاص وبذلهم وجهدهم ، أما الفقر المطلق فهو عدم تمكن الفرد من تحقيق حاجاته الضرورية “حفظ الدين والنفس والمال والفعل” ، وتختلف حاجات الإنسان حسب الزمان والمكان حد الكفاية ، وأن الاقتصاد الإسلامي يحتل هذه المسألة عن طريق الإنتاج وضوابطه والتنمية الشاملة والمستدامة لتنمية الموارد وزيادة الإنتاج الحقيقي، إلى جانب توزيع الناتج بعدالة ، وخلاصة القول إن مفهومي التنمية ” إعمار الأرض” والتوزيع يحققان أهم أهداف الاقتصاد الإسلامي المتمثلة في توفير الحد الأدنى للمعيشة ، أي توفير حد الكفاية وهو ما يعرف في اللغة الاقتصادية بالضمان الاجتماعي إلى جانب تخفيف التفاوت في الدخول والثروات حتى يتجنب تركيز الثروات في أيدي قليلة ” كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم” ، وهذا ما يعرف بالتوازن الاقتصادي علاوة على تحقيق التنمية الشاملة أو إعمار الأرض وفق مبدأ الاستخلاف والأمر الإلهي بإعمار الأرض.

البنوك الإسلامية ومشوار الألف ميل: واختتم البروفيسور الرشيد مثمناً دور البنوك الإسلامية، وقال قطعنا شوطاً لا بأس به في مشوار الألف ميل بإنشاء البنوك الإسلامية وتصميمها في العالم والاهتمام بها كبديل أفضل ويتبقى الكثير من جهود البحث الجادة لتأصيل الاقتصاد الإسلامي وفي هذا المجال نأمل في تفعيل مركز دراسات الاقتصاد الإسلامي والتنمية وذلك للبحث عن كافة جوانب النموذج الاقتصادي الإسلامي البديل·
إشباع الحاجات والقيم الإسلامية: وتحدث في الندوة الباشمهندس عبد المنعم مصطفى ، خبير التنمية والتخطيط ، وقال إن الحديث قد سقط عن صراع الطبقات كناحية اقتصادية وما يحدث في مجتمع اليوم هو الإشكال بين الفقراء والأغنياء إذ أن 1% من سكان العالم الأغنياء يملكون 50% من ثروات العالم فيما أن 50% من سكان العالم دخلهم دولارين أو أقل ويعيشون تحت خط الفقر وأن البنك الدولي أصدر بياناً أقر فيه بأن النمو لوحده لا يزيل الفقر وأنه لا بد من أدوات أخرى للتعامل مع أزمة الاقتصاد ، وفي ظل هذا الفشل لا بد من بدائل ، ولكن نحن كمسلمين لدينا البدائل في الاقتصاد الإسلامي لان كل التعقيدات في النظام الرأسمالي تأتي من حيث المال وما يميزنا نحن كمسلمين أن الإسلام يسعى لإشباع الحاجات والرغبات في حدود القيم الإسلامية بجانب الاضطلاع بإعمار الأرض امتثالا للأمر الإلهي وفي الاقتصاد الإسلامي تنظيم لسلوك الإنسان الذي هو وسيلة التنمية وهدفها ، في نفس الوقت فإن صيغ التمويل الإسلامية وقيام البنوك الإسلامية وانتشارها حول العالم واهتمام الدوائر الاقتصادية بل والسياسة العالمية بأسلوب استخدام نظام المشاركة في الربح والخسارة ” المضاربة” ، وكذلك استخدام الصيغ الأخرى مثل المشاركة والمشاركة المنتهية بالتمليك والإجارة والسلم دلالة على جدوى فعالية هذه الصيغ بالمقارنة مع نظام الفائدة كما أن القرآن يحد من التفاوت في المال وهناك حد للثراء الفاحش وهناك تقريع لان الثراء الفاحش مدخل للتعالي وأكل الحقوق ، وفي زمان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فاض المال وفي مجتمع اليوم نرى الثراء الفاحش والفقر المدقع·
الإسلام وتفتيت الثروة: واستعرض الخبير عبد المنعم قاعدة تفتيت الثروة وتوزيع المال الموروث وفق الاقتصاد الإسلامي ، وقال إن الأسرة هي الوحدة الاقتصادية الأساسية وأن التفكير الاقتصادي بدأ أولاً بالاقتصاد المنزلي ، مشيراً إلى أن عجز الأنظمة الوضعية في التعامل مع المال الموروث مما ولد أوضاعاً غير مرغوبة أو شاذة ، وقال إن تفتيت الثروة بداية من الأسرة يضع القاعدة لمخططي السياسات ومنفذيها على مستوى المجتمع والدولة· وأشار إلى قاعدة الإنفاق ودوران المال ضد الكنز، وقال إن أكثر سورتين وردت فيهما مفردة الصدقة والصدقات هما سورتا البقرة والتوبة إذ وردت الصدقة والصدقات في خمس آيات من البقرة ولكن الإنفاق ورد في أكثر من عشر مواضع؛ أما الإنفاق في الجانب الآخر هو دفع الأفراد والشركات والمؤسسات لتدوير رؤوس الأموال في عمل استثماري سلعي أو خدمي وعدم سحب الأموال من دورة الاقتصاد ، كما أن الإنفاق يعمل على تشغيل الأيدي العاملة ويخلق ترابطات أمامية وخلفية في تسويق الخدمات أو السلع ليستفيد منها الآخرون وتدر عليهم عائدًا، إلا أن الإنفاق يتطلب وضع سياسات يكون من السهل معها دخول سوق الأعمال وتقليل الإجراءات لحدها الأدنى بحيث يتمكن أي شخص أو شخصية اعتبارية من استخدام فكرته أو خبرته أو رأسماله دون حواجز أو عراقيل· الزكاة ضريبة فقر: وقال الباشمهندس عبد المنعم إن الزكاة هي قاعدة ضريبة فقر تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء وأن الزكاة ضريبة إلزامية وهي في الأساس ضريبة فقر وكلما كان المجتمع والدولة مزدهرة زراعياً وتجارياً وصناعياً كما حقق نسبة أعلى ووسع عائد الزكاة؛ كما أن الزكاة أداة مالية واقتصادية لولبية صاعدة إلى أعلى؛ فكلما توسعت قاعدة المجتمع المالية والاقتصادية تمكن المجتمع من مقابلة الضروريات الأساسية للأفراد والأسر بحيث ينتقل من الكفاية إلى الرفاه، وأضاف إذا لم تتوفر الضروريات الأساسية لأي فرد وفي إطار أن المالك الأصلي للمال هو الله، تجعل للمجتمع والدولة الحق في استقطاع أموال إضافية ممن زادت ثروته عن حاجته ففي المال حق غير الزكاة.· ودعا إلى إعادة تعريف الفقير والمسكين والبحث مجدداً عن مصارف الزكاة ، وقال إن الانشغال بالفقه الخاص “الضروري والشخصي” عطل الفقه العام في المجتمع والدولة مما حصر أركان الدين في شعائر تعبدية أغفلت أبعادها الاجتماعية والاقتصادية ، مؤكداً أنه تتضح عبر القواعد والمبادئ والأسس أن التوجيهات الدينية في القرآن والإسلام تسعى لعدم تركز الثروة بأيدي القلة ومحركها الثابت أن يقابل كل فرد ضرورياته الأساسية وصولاً للرفاه في توافق في مستوى الاقتصاد ” الوطني المحلي” في زمن معين وأن هذه الأسس والقواعد والمبادئ إذا تم تصميمها على النطاق الإقليمي والعالمي فإنها تقابل وتحقق كل الأهداف والغايات التي دعت لها حوارات الشمال والجنوب والمحددات الدولية الأخرى في معالجة الفقر· صوت لوم: وقال الباشمهندس عبد المنعم إن الأسس والمفاهيم في دراسة الاقتصاد أصبحت من التركيب والتقيد فغابت عن ذهني المواطن العادي ، فصار الشأن المالي والاقتصادي رهنا على كهنة من الخبراء والمختصين الذين بنوا كامل تصوراتهم على أسس ومبادئ الاقتصاد الرأسمالي القائم والذي وضح فشله من أعمال بعض هؤلاء الخبراء والمختصين أنفسهم، وأضاف أن المختصين لم يجتهدوا في إبراز فقه الأموال إلى جانب عدم سبر الأسس والمبادئ العميقة في القرآن وفي الشعائر والعبادات ، وقال بدلاً عن ذلك اتجهوا إلى المقاربات والمقارنات مع المذاهب الاشتراكية أو الرأسمالية من دون استحباب وقدرة على التجاوز مع شعور بالعجز تجاه الممارسة الطاغية والإنتاج الضخم في الدراسات والبحوث من داخل الحضارة الغربية المهيمنة فمع آلاف المؤلفين وأطنان المؤلفات لم يشعرنا الدارسون والباحثون المسلمون بما يميز القرآن والإسلام ويبرز تفرده في الاقتصاد، مع أن من واجب الجميع ومسؤوليتهم البحث عن بدائل واقعية وإنسانية تجعل كل فرد من شعوب العالم يقابل ضرورياته الأساسية سعياً نحو الكفاية ثم الرفاه، والتي تجعل التفاوت عن الثروة في حدوده الدنيا محلياً ثم على المستوى العالمي· الدولة وقضايا الفقر: هذا وقد دار نقاش مستفيض حول الندوة إذ أوضح البروفيسور عثمان البدري الخبير في مجال التنمية أن الدولة ركن أساسي في معالجة قضايا الفقر متسائل عما إذا كانت سياسة الدولة العامة وتواجدها لمعالجة أمر الفقراء أو لممالئة الأغنياء، وقال إن الدولة لا تعتمد على الرعاية الاجتماعية الكاملة فيما تأخذ دولة مثل السويد بهذا المبدأ . وكان هناك اقتراع من المشاركين في الندوة بتبني منهج أو مفهوم إستراتيجي للفقر، إلى جانب ضرورة وقف الأسباب المؤدية للفقر وعلى رأسها إيقاف الحروب والنزاعات وان تتبنى الدولة سياسات داعمة للحد من الفقر واتخاذ نموذج سيدنا يوسف عليه السلام في ترشيد الصرف والادخار.

تقرير : إبراهيم علي
سونا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق