الثلاثاء، 9 يونيو 2015

نقوش على محراب الفرعون محمد وردى



لم تكن مصادفة أن يخرج “وردى " من أصلاب قوم ينتمون إلى حضارة إمتدت لآلاف السنوات ، و قدمت للدنيا صهر الحديد و ساهمت فى الكتابة و في ترسيخ العبادة و الدين . و لعل القدر كان يشير - بهذا الإنتماء العريق - إلى خلود سيلاحق الصبى "محمد عثمان وردى " " كخيول الريح فى جوف العتامير " !! و لقد ظل " وردى " وفيا لأرواح أجداده الصلدة تلك ، فلم يعرف الإنكسار يوما حتى و هو فى عوز المرض و كبر السن ، و لم يرتاد مزادات السمسرة الرخيصة ، هو النوبى الفائض عنفوانا ، المملوء ثقة بالنفس ، ( المستف ) اعتدادا بحضارته و جذوره ، حتى وسمه بعض الحمقى بالغطرسة !!
يولد الأطفال عادة في مهد قماش ما . لكن لم تكن مصادفة أن يكون النيل هو مهاد الصبى "محمد " حين ولد فى قرية صواردة التى يحفها النهر القديم كمالسوار . هناك تربى الصبى فى جنة خضراء أرهفت حسه و زودته بمعين من صور ظلت تتقافز كما الخيول من جباه ألحانه الشم العرانين . قضى الصبى " محمد " طفولته فى "صواردة" ليشد بعدها الرحال تلميذا صغيرا إلى مدينة " عبرى " حيث عانق آلته الموسيقية الأولى : صفارته الحديدية !!! . لقد تحول النيل – المهد الأول فيما بعد إلى ملهم يشحذ خيال المغنى العظيم ، يستمد من ثوراته الثبات ، و يرى حبيبته تخرج من " شهقة جروفه مع الموجة الصباحية" !!

لم يكن مصادفة كذلك أن يولد " محمد وردى" فى نفس العام الذى رحل فيه العبقرى " خليل فرح" ( 1932 ) . سخر الخليل فنه للنضال و الجمال معا ، ثم رحل مخلفا فى الأرواح غصصا عميقة . لكن الله منح بلادى " وردى " فى نفس العام . لعلها سلوى السماء لذوى الجباه السمراء كطمى النيل ، المتسربلين بجلابيب شرفهم البيض كطيور البطريق . و لعلها إشارة كذلك إلى أن سفر الإبداع فى هذا البلد الحزين يظل متصلا إلى الأبد ، يرحل عنه عبقرى ليخرج آخر من عباءة الغيب الوسيم ، فى موكب لا يهده صمت المدائن فى أماسى الوجع الكبير !

لم تكن مصادفة كذلك أن يفقد وردى أمه و هو فى شهره الثالث ويفقد أباه و هو فى عامه الثانى لتتكفل جدته و عمه بتربيته . لعل القدر كان يهيئه ليكون صلدا جلدا لسجون قادمات ، و مظاهرات سيكتب لاحقا أن تكون أغنياته وقودها الكبير . ترى : هل حرم القدر وردى من أسرته ليعده كى يكون السودان ، بل إفريقيا ، بل الإنسانية جمعاء هى أسرته الكبرى ؟ بلى . ألم يتغنى وردى لاوممبا و هو لم يزل بعد شابا نحيل الجسد ، غض إهاب الروح ؟ ألم يتغنى لأحلام الكوكب الأرضى الخيرة حين قدم القرن الحادى و العشرون و ذلك فى رائعة الكبير " محجوب شريف " " تلفون العالم حول ، اتنين تلاتة أصفار " ؟

لكن ..مخطئ من يظن أن الفرعون كان نهرا للثورة فقط . فقد مزج بين التغنى لها و التغنى للحب بصورة مذهلة . و لعل خطوات الصبى اليافع على شاطئ النيل بحثا عن أم ذهبت ، ألهمته فيما بعد أن يصبح مغنيا للحب لا يعلى عليه فى " حزنه القديم " و " جميلته المستحيلة " و " وده " و " من غير ميعاده ، لا يجاريه فى ذلك سوى عبقرى " مقاشى " عثمان حسين !!

لم تكن مصادفة أن ينشأ الصبى فى مجتمع نوبى لا يعرف العربية . فالقدر كان يعده أن يتحول فيما بعد إلى جسر يربط الثقافة النوبية بالعربية فى السودان . بل إن القدر إختاره لأن يربط السودان بمجتمعات عربية و إفريقية كثيرة ، فطرب لأغنياته عشاق اثوبيا و ثوار الجزائر و مناضلو ارتريا و مثقفو الكنغو ليتحول وردى إلى شخصية كما جومو كينياتا و مانديلا و غيرهما من رموز القارة السمراء !!

عمل وردى بالزراعة فى بواكير شبابه . هذا العمل المضنى وثق من علاقته بالتراب و عزز من صلابته و وطنيته . و لقد ظل وردى وفيا لذكريات تلك الليالى رغم أنه احترف سفر القطارات و ناءت عشرات الطائرات بحقائب وجعه ، فجاب الأرض طولا و عرضا ، مهاجرا مرة و منفيا أخرى !!
لم تكن مصادفة أن يعمل " محمد وردى " فى بدايات حياته المهنية معلما فى قرية "فركة " التى شهدت نضال المهدية المرير مع المستعمر . فهناك أتيحت للمعلم الفرصة لاستنشاق عبق تاريخ سيذود عنه يوما ما ، و هناك إزداد حبه لبلاد سيصبح يوما ما مزمار داؤودها الأول !! هناك فى "فركة " مزج وردى بين تدريس اللغة العربية و الغناء و ذلك عبر تلحينه لأناشيد مثل " دجاجى يلقط الحب و يجرى و هو فرحانا " !! فكان التلاميذ يقومون بترديد أناشيده . و حين قدم إلى الخرطوم فيما بعد جعل من تلاميذه فى مدرسة " برى " كورالا عبقريا فى الياذته الوطنية " يقظة الشعب " . و لعل القدر زج به فى التعليم ليتحول الرجل إلى معلم لقارة بحالها ، و لتتسع رقعة فصله الطيني الصغير فى "فركة" إلى أثير يتمدد حتى بعد رحيله عن الدنيا !!
و لعلها من ترتيبات القدر الغريبة أن يعمل الشاب الرطان معلما للغة العربية و التربية الإسلامية فى "فركة " ثم فى " شندى " . ولعل القدر كان يعده ليتغنى فيما بعد بروائع الشعر الفصيح مثل " الحبيب العائد " و " لم يكن إلا لقاء و افترقنا " و " عرس السودان " . فى أمسيات شندى تحول المعلم الشاب إلى حديث لم يمل الناس ترديده . صدح صوته النوبى اللا عربى الرنان كالأجراس فى ديار عربية ، ذلك لأن التاريخ يقول إن لوردى معجبون لا يفهمون ما يقوله على الإطلاق . إن الذين تحلقوا حوله فى أديس أبابا أو معسكرات الجنوب ما جاؤوه إلا استجابة لعبقرية الصوت ، و سمو الألحان و تفرد الأداء !!!

و لعل القدر كان يعد معلم اللغة العربية الأعجمي ليفتح رؤاه فيما بعد على روائع شعراء بلادى فيتغنى لابى آمنة الهدندوى و لاسحق الحلنقى و لاسماعيل حسن الشايقى و لصالح مرسى النوبى بل و لامل دنقل المصرى و ليتحول المغنى العظيم إلى معبد من جمال يطوف حول محرابه كل شاعر فذ ليرسم على جدرانه قصيدة عذبة !!!

بل لم تكن مصادفة أن يكون وردى طويل القامة كالنخلة ! إن الرجل الذى قال عنه " أبو أمنة حامد" يوما " إنه يملأ المسرح هيبة و حضورا " ، كان تجسيدا للعنفوان حتى فى تفاصيله الجسدية ، فكان فارع الطويل ، حاد النظرات ، ثابت الصوت حتى فى لحظات المحن . و لقد عاش " وردى " كل حياته مدفوعا بعنفوانه فى كل تفاصيلها . و مات و بيته شبه مرهون و هو الذى ملأ الدنيا و شغل الناس و لو ابتسم يوما لجعفر نميرى لصارت نصف بيوت بلادى ملكا خاصا له !!

قدم " وردى " إلى الخرطوم لا عابرا لسماواتها كما غيمة صعلوكة ، و لكنه جاء ليحتل قمة غنائها لفترة فاقت النصف قريبا . وقف وردى أمام " على شمو " و رفاقه مغنيا فى رمضان العام 57 ، فأذهلهم . و بعد أعوام قلائل كان كان قدم " الطير المهاجر " و " لو بهمسة " و " بشوف فى شخصك أحلامى " كأسرع مغنى يشق طريقه إلى الغمام فى تاريخ بلادى !!

ثم دقت خيوله قاهرة المعز فى بدايات الستينات . و رغم نظرة الأعراب العجفاء للإبداع السودانى ، هرع " أندريه رايدر " - حين بلغ به الطرب مبلغه و هو يستمع إلي وردى فى رائعة " الود " - إلى عبد الوهاب محدثا إياه عن هذا الأسمر النابغة الذى صاغ لحنا عبقريا و هو بعد لم يزل صبيا ، ما عرف التعثر على أثواب دراسة أكاديمية بعد !! و لعل المتشدقين بأضواء العواصم البلهاء يذكرون حادثة سطو " محمد منير" على أغنية " وسط الدايرة " ، و مشاركته بها ضمن فعاليات مهرجان دول حوض البحر المتوسط الموسيقى ، بل و يذكرون فوز الأغنية بالجائزة الأولى و قرار اللجنة بأن تتحول مقدمتها إلى شعار دائم للمهرجان . و مثلما عرفت القارة السمراء قدر الرجل ، عرفته أوربا كذلك ، ففاز " وردى " فى العام 78 بجائزة نيرودا الموسيقية و هى جائزة على شرف الشاعر الشيلى الكبير و تمنح للمبدعين الجادين ذوى الإلتزام تجاه قضايا شعوبهم !!
عزيزى وردى ..
أعوام تمضى على رحيلك المر ، لكنك تبقى كثيف الحضور و العنفوان فينا !!!
…………….
مهدى يوسف
mahdi_yousif@yahoo.com  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق