الأحد، 28 يونيو 2015

يكثر فيه التراحم والتكافل: رمضان في السودان.. دائما «كريم»!

الخرطوم ـ «القدس العربي»:

 يتميز شهر رمضان في السودان بمظاهر عديدة، في مقدمتها موائد الرحمن التي اشتهرت منذ مئات السنين وتسمى في الأوساط الشعبية بـ»الضرا». وتشتعل ليالي رمضان بالتواصل الاجتماعي والفعاليات الثقافية والفنية أما المائدة السودانية في رمضان فهي متفردة من ناحيتي الشكل والمحتوى.
ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها أغلب أفراد الشعب السوداني فإن الجميع يحرص على أن تكون المائدة مميزة في هذا الشهر، وتنتشر عبارات معادة مثل «رمضان كريم» و»رمضان بجي بي خيرو» على ألسنة الجميع. لذلك تسبق اليوم الأول من الشهر هجمة شرسة على الأسواق خاصة في الأحياء الشعبية من أجل سحن البهارات وعجين الطعمية! 
يحدث هذا رغم أن الاستعداد الفعلي يكون قبل شهر أو أكثر في إعداد المشروب الحصري على السودان «الحلومر» وتجهيز «البصل المحمّر» و»الويكة» و»الرقاق» للسحور. وتتجول هذه المكونات في كثير من مطارات العالم، حيث يحرص السودانيون المنتشرون في كل القارات على التزود بها. 
ويبدأ الإعداد لشهر رمضان في وقت مبكر، حيث يتم إعداد العديد من المشروبات التي لا توجد في أي بلد آخر غير السودان وهي شراب (الحلو مر – ويسمى أيضاً الأبريه) بالإضافة للمشروبات المعروفة في بعض الدول العربية الأخرى مثل الكركدية «العناب» والعرديب وهو ثمرة تشبه تمر هنديو التبلدي (القنقليز) أيضا تشتهر المائدة السودانية بأكلة العصيدة التي تختلف عن أنواع العصيدة المعروفة في بلاد الخليج العربي، ويتم تناول العصيدة بملاح «التقلية».
ومنذ تاريخ بعيد يعود للممالك الإسلامية اشتهر الناس بحب إشاعة الخير في شهر رمضان، وخصوصا التكفل بإفطار الصائمين، لذلك تجد أغلب الناس في رمضان يفطرون في الشوارع (الضرا) ويؤدون صلاة المغرب في الشارع أيضا أملا في مرور عابر سبيل أو مسكين، فيدعونه للأكل معهم. فيما اشتهرت بعض قرى ولاية الجزيرة بالتكفل بالباصات السفرية الكاملة التي يصادف مرورها وقت الآذان ويتم أغلاق الشارع بعمامة أو حبل يمسك شابان بطرفيه ويقف كل واحد منهما على أحد جانبي الطريق والمدهش أن الموائد تكفي كل الذين يمرون في الطريق مهما كثر عددهم ويفسر كبار السن ذلك بوجود «البركة» في مثل هذا النوع من الطعام.
وتنتشر موائد الرحمن في المدن الكبيرة أيضا خاصة العاصمة ودخلت في إعدادها والتبرع بها بعض الدول العربية كما تفعل دول الإمارات العربية المتحدة هذا العام، حيث تقيم سفارتها في الخرطوم بالتعاون مع منظمة «الترقي العام» الخيرية موائد رمضانية في عدد من المساجد وأقسام الطلاب الداخلية والسجون ومعسكرات النازحين والمجمعات السكنية للفقراء والمساكين. 
وقالت ميسون أبوبكر أمين عام منظمة «الترقي العام» إن المنظمة تقيم يوميا بالتعاون مع منظمة «صدقات» موائد رمضانية في مسجد الخرطوم الكبير تفطر حوالي 300 صائم إلى جانب إفطار للصائمين في الميناء البري لأكثر من 370 مائدة وتكفي المائدة الواحدة حوالي خمسة أشخاص.
وأضافت أن الموائد تراعي إفطار قطاع الطلاب وتقدم 1200 وجبة يوميا في أقسام مصعب بن عمير وعلي عبد الفتاح الداخلية للطالبات وتوزع في جامعة أفريقيا العالمية 350 وجبة رمضانية يوميا، إضافة إلى 50 مائدة تكفي لـ»250» نزيلة في سجن أم درمان للنساء، 
إضافة إلى 200 وجبة في معسكرات النازحين في مدينة نيالا و200 وجبة أخرى في مجمع الشيخة شمسة بنت حمدان آل نهيان في الفاشر وبذلك تمتزج مائدة الرحمن السودانية بنكهة عربية أصيلة. 
هذه الموائد ليس الغرض منها إطعام المسلمين فقط، حيث يدعى لها كل من يمر في الطريق في لحظة الإفطار، ويصادف منهم المسلمون والمسيحيون وحتى الذين لا يصومون يتم الإصرار عليهم لتناول الطعام أو على الأقل تذوقه. لأن الغرض الرئيسي هو التواصل والكرم وإشاعة المحبة والتشارك.
ومن المفارقات أن المسيحيين في السودان يتكفلون بعدد من موائد الرحمن وتقيم الطوائف المسيحية حفل إفطار سنوي يشهده رئيس الجمهورية وكبار رجالات الدولة يتم ذلك بتسامح ومحبة كبيرة.
وإلى جانب الإفطارات العامة، تكثر في رمضان إفطارات المجموعات المهنية مثل المحامين، الصيادلة، أساتذة الجامعات، كما درج اتحاد الصحافيين على إقامة إفطاره السنوي في خواتيم الشهر الكريم في داره في المقرن.
وإنتشرت موخرا العديد من المبادرات الشبابية لتجهيز وجبة الإفطار في الشوارع والساحات العامة وتشارك بعض الشركات الكبرى، وعلى رأسها شركات الاتصالات، في توفير وجبة الإفطار في كل الأماكن، إضافة لذلك فإن السودانيين درجوا على تناول طعام الإفطار في الحدائق العامة والمتنزهات في شكل جماعات وأسر ويعقب الإفطار برنامج اجتماعي أو ثقافي. 
ويشارك ديوان الزكاة في توفير مستلزمات الصيام لمجموعات كبيرة فيما يعرف «بكيس الصائم» الذي يحتوي على مكونات مائدة رمضان الرئيسية مثل البلح والدقيق و»البليلة» والسكر والكركديه وتقوم اتحادات ونقابات الموظفين بتجهيز هذه المستلزمات للعاملين بأقساط شهرية مريحة.
ومن العادات الرمضانية التي كادت تندثر ما يعرف (الرحمتات) أو (الرحمة جاءت). هذا المصطلح يطلق على وجبة دسمة من الرز واللحم والعصائر تقدم للصغار في آخر جمعة من شهر رمضان.
ويعتقد السودانيون أنّ هذه الصدقة أكثر قبولا بالذات في هذا التوقيت في آخر جمعة من رمضان. ومن التقاليد المصاحبة تقديم هذه العصائر في (قلة) وهي عبارة عن إناء فخاري أكبر قليلا من الكوب العادي، يصنع خصيصا لهذه المناسبة. 
ليالي رمضان تعتبر من أكثر أوقات التواصل الاجتماعي حتى بين أفراد الأسرة الواحدة ويبدأ السمر عقب الإفطار مباشرة في الشوارع وعلى «بروش الضرا» قبل أن يتفرق الناس لصلاة العشاء والتراويح التي يحرص السودانيون عليها كثيرا ومن ثم تبدأ الزيارت للجيران والأهل وتتأخر وجبة العشاء في هذا الشهر لما بعد منتصف الليل ويمتد بعدها السمر الأسري إلى وقت السحور. ويعادل العشاء الرمضاني وجبة الغداء في غير رمضان وتضاف إليها «سلطة الروب بالعجور». 
ورغم إنتشار المنبهات الإلكترونية، خاصة عبر أجهزة الموبايل، لا يزال المسحراتي التقليدي موجودا وصامدا ويقوم بهذا الطقس ـ في العادة ـ الشباب متخذين العديد من الأساليب والأهازيج المصحوبة بالدفوف والتصفيق بالأيدي وهم يرددون «صايم رمضان قوم إتسحّر …فاطر رمضان نوم إتدمدم» ولا يخلو طقس السحور من الطرائف والمفارقات والمزاح البريء.
ويحرص البعض على تناول «المديدة» و»الرقاق والبلح باللبن» في السحور، لكن بعض الأسر تهتم بهذه الوجبة وتتناول فيها الطعام والشراب، إضافة للمنبهات وفي مقدمتها القهوة السودانية بكامل طقوسها بدءا من قلي البن.
وفي الأسبوع الأخير من هذا الشهر المبارك تبدأ المــلامح الرمضــانية في الإخـتـفـاء وتتقلص المائدة كثيرا ويتم الإنتقال تدريجيا لأجواء عيد الفطر المبارك من خــلال إعــداد «الخبائز» و»الكعك» والتجوال الليلي في الأسواق، وتنشغل النساء في هذه الفترة بنظافة المنازل وإحداث تغييرات في الديكور ووضعية الأثاث ويستمر ذلك حتى الساعات الأولى من صباح العيد.


صلاح الدين مصطفى
القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق