الأربعاء، 19 أغسطس 2015

لعنة الموارد



لدى كل دولة خصائص اقتصادية واجتماعية تختلف عن غيرها من الدول، وعليها، بالتالي، أن تجد الطريقة الخاصة بها لإدارة دفة الاقتصاد إلى بر الأمان، رغم أن ذلك لن يحول دون السقوط في أخطاء، حتى على طول الطريق الذي اختارته نهجاً اقتصادياً لها. مع ذلك، فإن كثيرا من الأخطاء الاقتصادية تسببت في قض مضاجع دول كبرى كانت تعتبر مثالاً في الرخاء الاقتصادي، فمن الحكمة بمكان أن نتعلم من أخطائنا الخاصة، بل من أخطاء الآخرين، ذلك أن تجارب الآخرين، مثل أزمة الديون اليونانية، أصبحت متاحة بسهولة للجميع، لدراستها واستخلاص العبر منها.

ومع تراجع أسعار النفط، أصبح لزاماً على دول الخليج تجنب الوقوع في مطب ما يطلق عليه، اليوم، "لعنة الموارد"، إذ إن البلدان النامية ذات الموارد الطبيعية الوفيرة، غالباً ما تواجه تنمية اقتصادية ضعيفة نسبياً، مقارنة مع الدول ذات الموارد الطبيعية الشحيحة، نتيجة لاعتمادها الكبير على صادرات عائدات النفط وعلى الموارد الطبيعية في توليدها للدخل.

خلال السنوات القليلة الماضية، عندما كانت تسجل أسعار النفط العالمية مستويات قياسية، قامت الدول الخليجية بإنشاء صناديق سيادية، بلغ إجمالي أصولها نحو 2.2 تريليون دولار بنهاية أيلول/سبتمبر الماضي، وذلك من خلال جمعها جزءا من فوائض المداخيل النفطية، كل عام تقريباً، ووضعها في هذه الصناديق.

لكن نظراً لتراجع أسعار النفط، في الفترة الأخيرة، أصبح على حكومات هذه الدول البدء بإجراءات إصلاحية استباقية، بحيث تشمل تحديد كمية وكيفية الإنفاق من هذه الصناديق، مع الأخذ بالاعتبار رفاهية الأجيال الحالية والقادمة، على حد سواء. إضافة إلى ذلك، ولتفادي تأزم الوضع الاقتصادي، على هذه الدول أن تفصل، فصلاً تاماً، بين تدفق إيراداتها النفطية وبين ما يتم الإنفاق منها، وألا تكتفي، فقط، بإنشاء صناديق "نفط" سيادية.

في الواقع، تعتبر دول الخليج العربي ثاني أكثر الدول اعتماداً على النفط في العالم، بعد جنوب السودان، حيث تُموِّل إيرادات النفط نحو 90٪ من ميزانياتها الحكومية، وبالتالي، من دون قاعدة مالية عامة، من المرجح أن يكون الإنفاق الحكومي لهذه الدول مرتفعا للغاية، ما قد يتسبب، أيضاً، في ارتفاع مستوى مديونياتها.

في الواقع، هناك صلة بين عائدات النفط والإنفاق المالي العالي، فالإسراف في الإنفاق خلال فترة ارتفاع أسعار النفط، يؤدي إلى تراكم مستويات عالية من الديون نتيجة الاعتماد على الاقتراض الرخيص. لكن مع تراجع أسعار النفط وارتفاع أسعار الفائدة، تزداد الصعوبات في قدرة هذه الدول على خدمة وسداد ديونها.

هنا تكمن أهمية الانضباط المالي كشرط مسبق لتحقيق تنمية اقتصادية مستقرة، وذلك من خلال القيام بإجراءات تعزز متانة هذه الصناديق، كأن يتم تحديد ما يسمى بـ "الدخل المستدام المقدر"، وهو مقدار عائدات النفط الذي يمكن للدولة أن تنفق منه سنوياً، دون أن يؤدي ذلك إلى استنفاد ثروات الدولة.

في هذا الإطار، فإن الدولة تحقق عجزاً في موازنتها العامة عندما تتجاوز نفقاتها مقدار الدخل المستدام المقدر، الذي يتم تحديده مسبقاً، ما يبرز الحاجة الماسة لدول الخليج إلى مواءمة الإنفاق مع الدخل المستدام المقدر، لتفادي السقوط في فخ العجز المالي والاضطرار، بالتالي، إلى الاستدانة.

في هذا السياق، تُمثّل التجربة النرويجية مثالاً حياً يجب الوقوف عنده لاستخلاص العِبر، خاصة من قبل الدول النفطية التي تواجه تدهوراً في ميزان مدفوعاتها وارتفاع عجزها المالي كُلّما سجّل برميل النفط تراجُعاً ملموساً. فقد أصبحت النرويج واحدة من أغنى البلدان في العالم، من خلال بنائها نموذجاً تتمحور فكرته حول توفير المال الذي تمتلكه من عائدات النفط بدلاً من إنفاقه، فقط، في رفع أعداد العمال وأجورهم في القطاع العام. لذلك، سعت النرويج إلى وضع ما يقرب جميع إيراداتها النفطية التي جنتها، منذ عام 1990، في حساب أُطلق عليه "صندوق النفط"، فحققت وفورات متنامية ضخمة بلغت قيمتها، اليوم، نحو 850 مليار دولار، حيث يُعد من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم.

لهذا الصندوق فضل كبير في تجنيب إصابة الاقتصاد النرويجي بـ "لعنة الموارد" كلما تراجعت أسعار النفط عالمياً، حيث لم تتأثر التنمية الاقتصادية، سلباً، في البلاد، ولم يتم تسجيل عجز في الموازنات العامة للدولة. في الواقع، تقوم الحكومة النرويجية بسحب كمّية قليلة من أموال الصندوق، وبنسبة لا تتجاوز 4% سنوياً، كي تنفقه على تدعيم ميزانياتها العامة فقط، إذ لا يُسمح للصندوق السيادي بالاستثمار في النرويج خشية حدوث تضخم مُدمِّر، بل يجري استخدامه لدعم الصناعات المحلية وتنمية صناعات جديدة مُستدامة، تُسهم في جعل الشركات غير النفطية أكثر قُدرة على المنافسة عالمياً. كانت نتيجة تلك السياسات الاقتصادية أن انخفض تأثُّر الاقتصاد النرويجي بتقلُّبات أسعار النفط، وضُبط التضخُّم، وتكوّن احتياطي نقدي كبير في "صندوق النفط". 


مازن أرشيد
(خبير اقتصادي أردني)
العربي الجديد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق