الأحد، 13 سبتمبر 2015

الكتابة في صالة الانتظار.. رعشة المطارات تنال منى


الخرطوم - أمير تاج السر
لا أذكر متى ركبت طائرة، أو انتظرت في مطار لأول مَرَّة، لكن ذلك غالباً ما كان في طفولتي المُبكِّرة، حين كان والدي يعمل في مدينة: الجنينة، أقصى غرب السودان على الحدود التشادية.
كانت الجنينة تقع على مسافة طويلة جداً من العاصمة، لا أعرف في كم من الزمن تقطعها العربات التي تقاوم وحل الخريف، أو خطر الجفاف وقُطَّاع الطرق، فقد كان ثمة امتياز خاص لموظفي الدّولة وعائلاتهم، أن يُنقلوا بالطائرات إلى مطار لا يملك بالطبع رفاهية المطارات، لكنه يفي بالغرض.
كانت طائرات الداكوتا الروسية، هي الناقل المتوافر في ذلك الزمان، وربما قليل من طائرات الفوكرز، ذات المراوح التي ما تزال تعمل داخل بلادنا حتى الآن، وقد أخبرتني والدتي بأن رحلة الطائرة تلك إلى الغرب والعودة، كانت من أسوأ الرحلات على الإطلاق، وكان ثمة احتمال كبير أن تسقط الطائرة في أي وقتز.
حين وعيت على السّفر، وأمكنني أن أحتفظ بتفاصيل القلق الذي يسبقه، وما تهبه المطارات من تعب وتسلية في نفس الوقت، لابد كنت في السادسة أو السابعة عشر، أديت امتحان الشهادة الثانوية، وسافرت من بورتسودان، في الشرق إلى العاصمة، لملاحقة الجامعات، وتقديم شهادتي، التي كان يجب أن أستخرجها أولاً. ولأنها الرحلة الأولى لي كما ذكرت وأنا أعتمد على نفسي، فقد علقت تفاصيلها كاملة في ذهني، ابتداء من جو المطار المزدحم بالفوضى والمسافرين، إلى السّاعة التي قضيتها في الطّائرة. كان ثمة أجانب ربما من العاملين في الميناء، أو السياح متوفرين بكثرة في المطار، كانت ثمة عائلات مسافرة، وأفراد أنيقون يحملون حقائب أنيقة، ويبدون على عجلة من أمرهم، يتشاجرون مع موظف السفر بسبب عدم توافر أماكن في الطائرة، لكن كانت ثمة مشاهد حميمة فعلاً، حين احتضن ثلاثة من الأجانب، نساءهم في قُبَلٍ طويلة لحظة الوداع، وأدار الناس وجوههم حتى لا يروا.
في صالة المغادرة، أوصاني أحدهم بشقيقته المسافرة إلى زوجها، ولا يدري أنني كنت بحاجة لوصي، حيث كنت في قمة القلق، والاضطراب، وأكاد أطلب من والدي أن يرافقني، لكنني لم أفعلْ، وقبلت بالوصاية، وكانت الأخت كما يبدو عروساً، مزركشة، وترتدي عدداً من أساور الذهب، وتضع عطوراً، وجلست بجانبي صامتة، حتى وصلنا العاصمة.
منذ تلك الرحلة الأولى التي أتذكرها كما قلت، وقلق السفر يتملَّكني، ورعشة المطارات تنال مني كلما نويت السفر، ولدرجة أنني أحس بعبء كبير كلما اضطررت لمفارقة بيتي والانغماس في رحلة ما، كنت دائماً ما أحس بأنني لن ألحق بالطائرة، وستفوتني المهمة التي أسافر من أجلها، ولذلك كنت أذهب للمطار مُبكِّراً جداً، ربما قبل أن يأتي موظفو خط الطيران ويبدأوا العمل، أجلس تلك الساعات راكداً في مكان ما، أمام بوابة المغادرة، وعيناي على السّاعة التي تشير إلى وقت المغادرة بالضبط، وأهب فزعاً بمجرد أن أرى البوابة قد فتحت وابتدأ استقبال المسافرين، لكن ذلك لم يكن يمنعني من التقاط كثير من وقود الحكايات، ومصادقة مسافرين آخرين، والاستماع لحكايات يحملونها ويودون لو أسمعوها لأي شخص يلتقونه، وأذكر أنني استوحيت عِدّة مواقف، من حوادث حقيقية، صادفتها في المطارات، بالمقابل كانت ثمة تعقيدات كثيرة تحدث بالفعل، كأن يُلغَى الحجز في آخر لحظة، أو ألتقى بأشخاص فوضويين، يتعرفون إليّ ويمنعونني من قلقي الذي أحبه وأعتبره من بهارات السفر، وفي إحدى المرات التقيت برجل قال بأنه مستثمر مهم، وذاهب لبناء برج تجاري في بلدي، وكان قد قَدِمَ من دولة في أوروبا، وسيرافقني في الرحلة. كانت هناك ثلاث ساعات كاملة، لم يسكت فيها ذلك المستثمر، لم يلتقط أنفاسه، ولم يسمح لي بالتقاط أنفاسي، أخرج من حقيبته اليدوية المنتفخة، خرائط وتخطيطات أولية، لمشاريع ضخمة سيقوم بتنفيذها، وكان من الواضح أنه حالم، مسكين، جاءت به أقوال غير مؤكدة، إلى بلاد لن يستطيع فيها حتى أن يعبر الطريق بمفرده، ناهيك عن بناء الجسور والأبراج، وحين وصلنا، فررت منه بصعوبة، لكن المصادفة جعلتني ألتقيه مَرّة أخرى بعد خمسة أيام، وأنا في رحلة العودة، كان كئيباً، وصامتاً وواضح جداً أن هناك حلماً غالياً سقط منه في التربة غير الصالحة لتفعيل الأحلام. هذا المستثمر، كان هو شخصية حسن طراطيش، في روايتي (تعاطف).
من الأشياء الجيدة فعلاً، في ارتداء القلق والذهاب به إلى المطار مُبكِّراً، أن هناك أشياء كثيرة ستلغى، لم أكنْ أفكر في زحمة المرور، ولا كيف أتخلّص من أمتعة زائدة إِنْ حدث وزاد وزن الأمتعة، وتلك الخاصية التي ذكرتها: مراقبة الوجوه والانفعالات، وصياغة حكاية لكل فرد جالس أو يجر حقيبة، أو حتى يكتب على جهاز كمبيوتر، وقد جربت بدوري أن أكتب مقاطع من رواياتي أو مقالاتي على جهاز الكمبيوتر وأنا جالس أنتظر، ونجحت إلى حَدٍّ ما، حين كتبت فصلين من روايتي الأخيرة (طقس) وأنا في صالة الانتظار لرحلة قمت بها إلى أوروبا.
إذن للسفر متعة، وله رهبة، وغالباً ما يرتدي سحنة القلق، وقد تعوّدت أن أستمتع، وأحس بالرهبة، وأستخرج من القلق حكاياتي الخاصة

اليوم التالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق